الأكاديمي والمؤرخ الصومالي الدكتور محمد الحاج مختار في حوار خاص مع الصومال الجديد
الصومال الجديد
آخر تحديث: 7/05/2023
تتشرف مؤسسة الصومال الجديد للإعلام والبحوث والتنمية بأن تقدم لقرائها الكرام حوارا طويلا مع الأكاديمي والمؤرخ الصومالي الدكتور محمد الحاج مختار، وذلك في مقر إقامته بمجمع سفاري السكني في مقديشو في تاريخ الثالث من شهر يوليو عام 2022م.
أجرى الحوار بشكل مشترك كل من: عبد النور معلم محمد ومحمد رشيد
نبذة من سيرة الدكتور محمد الحاج مختار
الدكتور محمد الحاج مختار، كاتب وأكاديمي صومالي متخصص في التاريخ، من مواليد عام 1947م في قرية بمحافظة بكول. يعد من أشهر وأبرز الشخصيات الأكاديمية الصومالية. عمل في الأكاديمية الصومالية للفنون والعلوم والآداب عام 1974م. كما عمل أستاذا بكلية لفولي التابعة للجامعة الوطنية 1975م. نال الدكتوراة عام 1983م. قضى وقتا كثيرا من حياته في المهجر، حيث عمل في عدة جامعات بالولايات المتحدة وماليزيا، وآخرها جامعة سفانا الأمريكية التي لا يزال يعمل فيها منذ عام 1991م. وله عدة أبحاث ومؤلفات، ومن آثاره: “تاريخ الاستعمار الإيطالي في الصومال حتى عام 1908″، رسالة ماجستير في التاريخ الحديث مقدمة إلى جامعة الأزهر 1973، و”الصومال الإيطالي في فترة الوصاية حتى الاستقلال 1950 – 1960″، رسالة مقدمة للحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث، جامعة الأزهر، 1983م.
وهذا هو نص الحوار:
سعادة البروفسور، طالما درست وتخصصت بالتاريخ، نودّ أن نسألك عن أصل العنصر الصومالي، وهل ينتسب الصوماليون إلى سلالة واحدة؟ أم ينحدرون من عدة سلالات مختلفة؟، حسبما تشير إليه الروايات التاريخية المتعدّدة.
هذا السؤال صعب جدا، ومما يؤسف له أننا جميعا حديثوا عهد بمجال البحث التاريخي، تماما كمثلكم، وبالمناسبة، قد أحببت في بداية دراساتي إصدار رسالتي، الدكتوراة، في التاريخ القديم للصومال، إذ تم إجراء حفريات تاريخية بالقرن الإفريقي في سبعينيات القرن الماضي، وتوصلت إلى نتيجة مؤداها أن القرن الإفريقي هو الموطن الأصلي للإنسان، حيث كانت تتدفق في أواخر القرن التاسع عشر وحتّى القرن العشرين الروايات الدالة على أن هذا القرن هو الموطن الأصلي للإنسان، مما حبّب إليّ إصدار رسالتي في الدّكتوراة بالحديث عن التاريخ القديم للصومال، غير أن أساتذتي لم يشجعونني على ذلك، لما يحيط بالموضوع من صعوبات بحثية، حيث يتطلب القيام بالعديد من الحفريات، وقالوا: الأفضل أن تختار عنوانا أسهل منه تتوفر مصادره ومراجعه على الأقل في استكمال الدّكتوراة، وبعد ذلك يمكن البحث في هذا الموضوع، طالما مجال البحث مفتوح دائما، وهو ما قمت به، وفعلا كانوا على الصواب، لأننا – نحن الصوماليين- لا تتوفّر لدينا وثائق وكتابات يمكن الاعتماد عليها، بخلاف الأمم الأخرى التي لديها بعض الكتابات، أما نحن فنبدأ من نقطة الصفر والرجوع إلى الرّوايات الشفهية التي يدور النزاع حول مدى نسبة الوثوق بها والاعتماد عليها ؛ لذا، فإن الإجابة عن السؤال حول أصل الصوماليين يستوجب إجراء دراسات عميقة، وأتمنى أن أحقق فيها نجاحا، لأنه مطلب أساسي. والمشكلة التي واجهتني، هي أنني لو عدت إلى البلاد في الثمانينيات لواصلت عملي في هذا المجال، لكن حال دون ذلك تعذّر مجيئي إلى البلاد! والإنسان عندما يجري بحثا، لديه سؤال يبحث له عن جواب، فعندما أكملت رسالتي ساورني العديد من التّساؤلات التي لم أجد لها جوابا بعد. وعليه فإنه طالما أن هذا القرن هو أصل الإنسان، فإن الصوماليين هم أصل الآدميين، وأحب أن نفتخر بأننا ننتمي إلى أصل الإنسان، طالما العالم يقول ذلك، على الرغم من الانتشار في الشرق والغرب والشمال والجنوب، مما يتطلّب إجراء دراسات أخرى.
السؤال التّالي، ما جذور اللغة الصومالية وإلى أين تنتمي من المجموعات اللغوية المعروفة؟
هذا السؤال له علاقة بالسؤال السابق، لأن الدّراسات اللغوية مهمة جدا لأنها تساند الدّراسات التاريخية، فإذا توفرت دراسات لغوية قوية ومتينة، فمن السهل إجراء دراسات تاريخية، ووفقا لما هو مشاع، فإن اللغة الصومالية تنتمي إلى عائلة اللغات الكوشية الشرقية المنتشرة في القرن الإفريقي وجنوب السودان وحتى وسط إفريقيا، ومنها لغات الأورومو، الساهو، العفر، و لغتنا نحن (أي الصوماليين)، وعليه، فإن اللغة الصومالية تنتمي إلى هذه العائلة اللغوية الكبيرة التي تضم أكثر من 20 لغة، منها لغاتنا. ومرّة ثانية، فإن هذه اللغات من أقدم اللغات في إفريقيا بل في العالم أجمع، وخاصة اللغات الصومالية، فمثلا لغة الجيدا وحدها –وهم أبناء قبيلة من قبائل الصومال- التي يتكلم بها حاليا عدد محدود، قد وُجدت منذ 4 آلاف عام، فإذا الكشف عن أصل اللغات الصومالية من ضمن الدراسات الصومالية بأجمعها.
هل تأثرت اللغة الصومالية -بسبب طول عمرها- بلغات أخرى؟ وإذاكانت الإجابة بالإيجاب، فمن أين يأتي التأثير الأكبر للغة الصومالية؟
نعم، فطالما قلنا: إن اللغة الصومالية تنتمي إلى اللغات الكوشية الشرقية، فإن هناك عملية تأثير وتأثر بين هذه اللغات الـ 20 والتي تحتاج إلى دراسات عميقة، فقد تؤثر هذه اللغات في اللغة الصومالية، وقد يحدث العكس، وبطبيعة الحال، فإن عملية التأثير والتأثر بين اللغات في المحيط الإقليمي والجغرافي أمر وارد لا شك فيه، فكل البلاد المجاورة لنا قد أثرت فينا أو أثرنا فيها سواء كانت الدول الإفريقية الناطقة باللغات الكوشية أو الدول العربية الناطقة باللغات السامية، وقد تجد آسويين من إندونيسيا في جنوب شرق آسيا لهم تأثيرات، إلى جانب الأوروبيين، إذ إن الصومال هو البلد الوحيد الّذي قسّمه الاستعمار بشكل فظيع، بحيث إنك لا تجد في إفريقيا بلدا آخر عانى مما عاناه الصومال، وعليه فستجد في اللغة الصومالية تأثيرات من اللغات الإيطالية والفرنسية والإنجليزية.
كما هو معلوم، للصومال تاريخ طويل، إلاّ أنه ليس هناك مراجع كثيرة يمكن الاعتماد عليها، فما السبب في ضياع أو فقدان الإرث الثقافي والمعرفي والتاريخي البعيد للصومال؟
سؤال وجيه جدّا، ومرّة أخرى عودا على بدء، الصوماليون أمة لا تكتب، فأنت إذا لم توثق ولم تكتب، واعتمدت على المشافهة والتحدث دون وجود من يوثق عنك أقوالك، فالغموض يكتنف حول تاريخك، مما يمثل صعوبة في وجود مصادر تاريخية صومالية معتمدة، لكن ومع ذلك، فإن دراسة تاريخ الدول المجاورة مفيد لمعرفة جزء على الأقل من الحلقات المفقودة في تاريخنا؛ إذ تذكر المصادر التاريخية أنه كانت هناك علاقات بين الصوماليين والفراعنة، ثم تنقطع هذه الأخبار لنرى فجأة وصول الإسلام إلى الصومال، لكن بدون معرفة الملابسات والمعلومات المتعلّقة بهذا، فدراسة تاريخ البلدان المجاورة في هذه المراحل التاريخية، قد تكشف جانبا من التاريخ الصومالي المفقود، وعليه فإن الروايات الشفهية، وبحث تاريخ البلدان المجاورة والرجوع إلى الأساطير الشائعة وقصص الأطفال والأمثال الشعبية والأشعار يمكن أن تكوّن مصادر تاريخية لجمع المعلومات التاريخية، فمثلا لا يتوفر تاريخ العرب في العصر الجاهلي وما قبله، لكن وثقوه في أشعارهم كالمعلّقات السبع وغيرها وفي حكمهم وأمثالهم وفي أيام العرب، وكذلك الأوربيون، إذ يحيط الغموض بما قبل تاريخ الإغريق والرومان، لكنهم استخلصوه من الأساطير والقصص الشعبية، وكذلك الهنود، فكل منطقة تعتمد على الأساطير والقصص في دراسة تاريخها القديم، وعندنا مثلا ،كانت الجدات يقصصن على أبنائهن قصصا حول الحيوانات إذا أمعنت النظر فيها تستخلص منها العبر. ثم بعد الوصول إلى العصر الإسلامي في الصومال ستجد مصادر عربية تتحدث عن التاريخ الصومالي، حيث زار جغرافيون ورحالة كثر هذه البلاد، وكتبوا عنها بعد عودتهم إلى مناطقهم، فياقوت الحموي مثلا يقول: “الصوماليون يحملون لغتهم على رؤوسهم” مما يشير إلى أنهم شفهيون أي بمعنى أنهم يعتمدون على الرواية الشفهية أكثر عن غيرها من الوسائل التوثيقية، فعبدالنور، الساكن في مقديشو مثلا، باحث في مؤسسة الصومال الجديد، يجمع لها المعلومات، لكنه سافر إلى كينيا، وأنت بحاجة إلى المعلومات المتوفرة لدى عبدالنور ولكنها ليست موثقة أو مكتوبة، فإذا يجب عليك السفر لتعقّبه كما كان يفعله رواة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم – كالبخاري ومسلم- إذ يقال مثلا للإمام مسلم، عثرنا على ربع هذا الحديث في هذه المنطقة، ويُفتقد نصفه، فيُقال إن فلانا كان يوما ما في هذه المنطقة، لكنه الآن سافر إلى المنطقة الفلانية، فيركب فرسه، مما يدل على قوة عزيمة العرب وشكيمتهم، وقد جاء إلى هذه الأراضي بعض الرحالة، مثل المسعودي، وابن بطوطة، وسأتحدّث عن ذلك لاحقا في فصل المصادر العربية في كتابي الجديد القادم بإذن الله ، وهناك أيضا المصادر الأوروبية: إيطاليا، فرنسا وألمانيا، ليس هناك جهة لم تأت إلى هذه البلاد، مما يحتّم الرجوع إلى ما جمعوه من معلومات، وأعتقد أن المصادر العربية، تشكّل مصادر مهمة للتاريخ الصومالي، لكن مما يؤسف له أن العلماء الّذين سبقونا في كتابة التاريخ الصومالي كانوا يستخدمون مصادر أوروبية، وخاصة إنجليزية، يدورون ما وثقه الإنجليز، مما لا يجدي نفعا كبيرا، وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى المصادر العربية، إذ اللغة العربية هي الأساس، وكانت اللغة المستخدمة لدى الصوماليين في ممارسة التجارة والشؤون الدينية وغيرها، لكن ينقصهم المصادر الأوروبية الأخرى مثل إيطاليا، لكن العلماء الذين سبقونا في كتابة التاريخ الصومالي لم يُحاولوا الاعتماد على المصادر الإيطالية، كما أن هناك مصادر ألمانية مليئة بتاريخنا، إذا، يجب تشجيع شعبنا –الجيل الجديد- على تعلم لغة معينة لمعرفة الأحداث التاريخية الصومالية في فترة معينة.
سعادة البروفسور، هناك تنبؤات ومخاوف باندثار بعض اللغات في العالم، فهل اللغة الصومالية من بين هذه اللغات المهدّدة بالانقراض والاندثار؟
لا، من العوامل التي تساعد على بقاء اللغة الصومالية، كونها لغة عنيدة، استطاعت الابتعاد قدر الإمكان حتى عن المؤثرات اللغوية للجيران، خاصة أنك كلما اتجهت إلى جنوب الصومال كلما تنحصر فيها تأثيرات اللغات الأخرى، على العكس إذا اتجهت إلى الشمال، فإنه يمكن أن تلقى تأثيرات عربية وهندية وآسيوية في اللغة الصومالية، لكن اللغة الصومالية على الرغم من ذلك صمدت أمام هذه المؤثرات ودافعت عن نفسها، فمثلا، عند كتابة اللغة الصومالية (المحاتري) بالأحرف اللاتينية لوحظ امتلاؤها بالعديد من الكلمات التي لا تحتويها اللغات الإفريقية الأخرى، مما يعني أنها لغة عنيدة حافظت جدّا على الابتعاد عن التأثيرات اللغوية الأخرى، فإذا، يمكن أن نقول إن هذه اللغة ستبقى قوية إذا ما وجد لها أحرف تليق بها أو خط يناسبها، وستنفع هذه الكتابة اللاتنينة المقلوبة شيئا ما، وقد تحدث كوارث إذا ما تم التقصير إزاءها، لكن هناك لغات أخرى في البلاد بدون أحرف، فيخاف عليها من الاندثار، كالماي والجيدا، والغرّي، فينبغي توفير أحرف لكتابتها، وكما ذكرت لكم سابقا، فقد انحصرت لغة الجيدا اليوم في قريولي وضواحيها، فمن الممكن أن تتسلل إليها تدريجيا المؤثرات الأخرى وخاصة مؤثرات اللغة المحاترية.
هل هناك علاقة بين اللغة الصومالية المكتوبة حاليا (المحاتري) وهذه اللغات الأخرى مثل الماي، الجيدا، والغرّي، وما نوع هذه العلاقات؟ وما هو القاسم المشترك؟
نعم، هناك قاسم مشترك بين هذه اللّغات، إذ إنها لغات متجاورة أوّلا، واللغات المتجاورة جميعا يساند بعضها البعض الآخر. وإذا وجدت طريقة لإبراز وتوضيح مجالات التعاون فيما بينها لكانت أفضل، لكن من سوء الحظّ، أن الصومال حاول القول بوحدة لغته منذ أكثر 40 عاما، إنه لإنجاز عظيم إيجاد طريقة لكتابة اللغة الصومالية المحاترية، غير أن الفشل في كتابة أحرف المحاتري بلغة الجيدا والماي إخفاق كبير، إذ إن هناك اختلافا في الأصوات والنطق، إلى جانب خصوصيات لغوية أخرى، لذا، فإنّي أرى أن هناك مسؤولية جماعية للبحث عن طريقة لكتابة لغاتنا حتى لا تضيع أو تندثر، فمثلا لغة المحاتري كُتبت بالحرف اللاتيني مع تعديلات في أغراض استخدام بعض أحرفها، حيث إن حرف C في الأحرف اللاتنية يرمز إلى حرف العين (ع) في اللغة الصومالية المحاترية، بينما يرمز حرف X اللاتني إلى حرف الحاء (ح) في اللغة الصومالية المحاترية، وعليه فإنني أرى أن نبحث ونتتبع اللغات واللهجات الأخرى في البلاد، حتى نقف على أصوات مختصة بها، فيضاف إليها إذا أمكن، والحقيقة أن الخطأ الأكبر الّذي وقع فيه مقرروا كتابة اللغة الصومالية بهذه الطريقة، أنهم لم يرجعوا إلى الأبجدية الصوتية الدّولية (IPA)، التي توفر طرقا لكتابة الأصوات المختلفة الموجودة في اللغات، ولو أنهم عادوا إليها لوجدوا علامات ترمز لبعض الأصوات الغامضة التي يصعب كتابتها، لذا، لا بد من حكمة تؤدّي إلى جمع جميع هذه الأصوات، فالخطأ الّذي ارتكبناه، أو ما يؤسف له أنه لم تتم إجراء دراسات ميدانية، حيث كان من المفروض قبل البدء في الكتابة معرفة الأصوات، والّذين قاموا بكتابة هذه اللغة، كانت تدفعهم النعرة القومية فقط، الداعية إلى “كتابة لغتنا”، فتغاضوا عن دراسات قامت بها لجنة اللغة الصومالية في الأربعينيات والستينيات ولم يهتموا بها، إذ إنهم كانوا متحمّسين فقط، لكن أعتقد لو أنّه وُجد أحرف لهذه اللغات الأخرى فيتحقق التكامل فيما بينها.
هل هذه اللغات، لغات متوازية تنحدر من أصل مشترك، أم أنها لهجات تتفرع من لغة واحدة، فمثلا، الماي والمحاتري، أتراهما لغتين مستقلّتين أم أنهما لهجتان من لغة واحدة؟
اللّغات الكوشية كلّها من منبع واحد، وبالتالي فإن الماي والمحاتري والجيدا تشترك في الأصل والمنحدر، أما كونها لغات مستقلّة أو لهجات من لغة واحدة، فمرة أخرى أقول: إنها مشكلة قائمة تحتاج إلى دراسات عميقة جادة حولها، والملاحظ أن المؤتمرات الصومالية ركّزت على الجانب السياسي فقط بدءا من عام 1991م، ومن وجهة نظري أن الانهيار الّذي لحق بالصومال لم يكن مقتصرا على الجانب السياسي فقط، بل هناك دمار واسع أصاب المنظومة الاجتماعية والعلمية للشعب الصومالي، مما أثر على الباحثين وجهودهم البحثية، وعليه، فإنه يجب على الصوماليين العودة إلى الواقع ومحاولة فهم أسباب الانهيار التي من بينها إهمال بعض هذه اللغات وتجاهلها، مما شكّل عبئا على بعض فئات المجتمع، فمثلا، إذا فُرض على الناطق بلغة الجيدا التحدّث باللغة الصومالية، يتساءل أو يسأل عن اللغة التي يتحدّث بها؟ وما هي اللغة الصومالية؟. وبما أننا حديثو عهد في مجال البحث العلمي، فمما تم استكشافه أن دستور عام 2003م، كان ينص في مادته السابعة على أن اللغة الصومالية تتكوّن من الماي والمحاتري دون التحديد فيما إذاكانتا لغتين مستقلتين أو لهجتين للغة واحدة، لذا أشعر الآن ببداية عهد جديد من الفهم الواسع والإدراك العميق، إذ يرغب من كان يُفرض عليه بأن اللغة الصومالية لغة واحدة في الاستفسار عن هذه الفوارق في اللغة والمطالبة بتوضيحها، فإذا يجدر بنا تعزيز البحث العلمي والتشجيع عليه، وبعدها من الممكن الوصول إلى نتائج، ليس ضروريا أن نكون نحن من يتوصل إلى تلك النتائج، وليس بوسعنا اليوم الفصل بين ما هو لغة مستقلة بذاته وبين ما هو لهجة تابعة للغة، لكن بإمكاننا الإشارة إلى وجود فوارق لغوية.
غالبا ما نسمع أن اللغة الفلانية ثرية أو غنية، فما معيار ثراء اللغة؟ وهل يمكن القول بأن اللغة الصومالية لغة ثرية؟
مرّة ثانية وثالثة، نعود إلى نقطة البدء، لأنه لم يتم بعد تحديد تقسيمات اللغة الصومالية، وما إذا كانت الفوارق بينها فوارق داخل اللغة الواحدة، فتكون بذلك لهجات متفرعة عن لغة رئيسية أو لا؟ وكذلك غياب المصطلحات، والقواميس هي التي تحدد مفرادات اللغة لمعرفة ثرائها أو ضعفها ، وأول قاموس في اللغة الصومالية، وضعه المرحوم الدّكتور ياسين عثمان كينديد ، وكان بحجم جيّد، تلاه قاموس آخر تم وضعه في جمهورية جيبوتي الشقيقة، ليس لدينا إحصاء رسميّ لمفردات اللغة الصومالية، لكني، وعلى الرغم من ذلك أشعر بأن اللغة الصومالية غالية وثرية وقوية جدا نظرا لصمودها لمدة طويلة في صراعات لغوية بالمنطقة.
كما ذكرت آنفا، ينص الدّستور الصومالي في مادته الخامسة على أن اللغة الرسمية الأولى للجمهورية هي الصومالية (الماي والمحاتري)، واللغة الثانية هي العربية، هل يعني ذلك أن الماي والمحاتري لهجتان متفرعتان عن اللغة الصومالية؟ وبالتالي ما طبيعة اللغات أو اللهجات الأخرى المحدودة في بعض المناطق؟ هل هي لهجات موازية للهجتي الماي والمحاتري أم من الممكن أن يكون لها أصول لغوية أخرى؟
الملاحظ أن الدّستور الذي أشرت إليه كان دستور عام 2003م، والّذي كان ينص في مادته السابعة على نفس المسألة المتعلقة باللغة الصومالية (الماي والمحاتري)، بينما مسودة الدّستور الحالي تنص على نفس الشيء في المادة الخامسة، وهنا تعود نفس المسألة، وبالتالي يجب التوضيح، فمثلا، إن اللغة الثانية للبلاد هي العربية، فالسؤال الّذي يطرح نفسه هو هل هناك إقليم في الصومال أو قبيلة صومالية تتحدّث أو تتواصل باللغة العربية؟ لا أظن ذلك! يأتي هذا السؤال وغيره من الأسئلة، وعليه، فإن واضعي هذه الدّساتير لم يحيطوا خبرا بميدان عملهم، إذ إنه عندما تُحدد لغة بأنها اللغة الثانية لبلد ما، لا بد من وجود مجموعة كبيرة جدا من السكان تتواصل بهذه اللغة، فمثلا، مجموع سكان الصومال يقدّر بـ 10 ملايين نسمة، فلو أن نصف مليون من هؤلاء –على الأقل- يتحدّثون بالعربية لكان مقبولا تحديد العربية لغة ثانية في البلاد، لكن طالما أن الدستور غير مكتمل، فتدخل هذه القضية في إطار القضايا التي تحتاج إلى استكمال…!
هل أثرت التقاليد والأعراف وطرائق الحياة المختلفة للقبائل والمناطق الصومالية على القضايا السياسية والأمنية وجهود بناء الدّولة الصومالية؟
أعتقد ذلك، وهو ما ذكرته لكم آنفا من أنه لم ينظر إلى هذا الدمار الذي أصاب البلاد من جوانب أخرى غير الجانب السياسي، مما له تأثير في إحلال السلام وإعادة الاستقرار في البلاد، ويجب علينا بادئ الأمر تحديد بداية الانهيار، قد يقول الصومالي: إن الانهيار بدأ بعد هزيمة النظام العسكري في الصومال، لكن إذا أجريتم بحوثا عميقة فستجدون اختلافات كثيرة، وهو ما حاولته سابقا، إذ يقول البعض إن بداية الانهيار كانت خسارة حرب 77 مع إثيوبيا، فيما أن هناك آخرين يعيدون الانهيار إلى فترة ما قبل الاستقلال أي في 1956م، مما يعني أنه لا يوجد حتى الآن اتفاق حول بداية الانهيار في الصومال، وعليه، فإنني من وجهة نظري، أرى أن الانهيار في الصومال في عام 1991م، كان نتيجة للاعتداء على بعض الاختلاف والتنوع القائم بين الشعب الصومالي، وإذا لم تتم مراجعة ذلك ولم يتم البحث عن حلوله، فسيستمر الظلم، ومن المؤلم جدا أن يطول هذا الانهيار لمثل هذه الفترة، فالحروب الأهلية غالبا ما تحدث في جميع الأقطار والمناطق، ولكن يمكن تجاوزها خلال سنوات عديدة، أما عندنا فأظن أنه يتم التغاضي عن حقائق واقعية لا بد من النظر فيها، مما يطيل أمد الأزمة، وعلى الرغم من ذلك، فهناك بعض الإيجابيات التي أحرزتها مؤتمرات المصالحة الصومالية، فمثلا، في عام 1997م، قرر الصوماليون في اتفاقية سودرا بإثيوبيا أن الصومال تتكون من 5 قبائل رئيسية، مما مثل قاعدة رئيسية للانطلاق منها لحل المشاكل السياسية في الصومال، وفي 2003م، نص الدستور الصومالي على أن اللغة الرسمية في البلاد هي اللغة الصومالية (الماي والمحاتري)، مما يشير إلى بداية استكشاف أسباب الانهيار، فاتفاقية سودرا أثبتت أنه كانت هناك جماعات عرقية أو قبلية تم تجاهلها في تقاسم السلطة، بينما دستور 2003م، أشار إلى وجود فوارق ثقافية ولغوية داخل الوسط الصومالي، إذ إن اللغة هي أساس الثقافة وعمادها، وفي عام 2000م، تم الاتفاق في عرتا بجيبوتي على حصة للمرأة الصومالية في المشاركة السياسية، مما يعني تدريجيا استكشاف جوانب عديدة كانت سببا للانهيار، وبالتالي سيستغرق ذلك وقتا طويلا، وخلاصة القول، أن تأثيرات الاختلافات العرقية والفوارق اللغوية على أسباب انهيار الدولة الصومالية موجودة، لكن هناك تجاهل حتى الآن عن الاعتراف بها، … والاعتراف بالحق فضيلة، لذلك، فإني أرى أنه لو وجدت بيئة مناسبة للتعبير عن التعدد الثقاقي داخل المجتمع الصومالي، ربما سيأتي حل ناجع للأزمة الصومالية.
استننباطا من جوابك عن السؤال السابق، فإن الصومال تتبع نظام المحاصصة القبلية لتقاسم السلطة – بغض النظر عن صحته أو خطئه- حيث قسم المجتمع الصومالي إلى 5 قبائل كبيرة ورئيسية، فهل تشكيلة القبائل الخمسة تشكيلة صحيحة لهذه القبائل، بمعنى هل أن أفخاذ أو بطون العشيرة الواحدة تنتسب إلى أصل واحد صحيح، أم أن هناك معالجات واعتبارات أخرى؟
أظن أنه نوع ما جزء من تقريب المسافة وتقييد المطلق، وهو شيء إيجابي بالنسبة لي، إذ إن الانشغال بكيفية تقسيم السلطة على مئات القبائل أمر صعب، وبالتالي فإن حصر القبائل الصومالية بـ 5 قبائل فقط هو تسهيل لتقاسم السلطة، مما يمثل فائدة كبيرة، لكن المشكلة تكمن في كيفية التنفيذ، بمعنى آخر أن لا يكون الاتفاق حبرا على ورق، وهو مما يمكن حدوثه حاليا مما يطيل بقاء الأزمة، لكن أرى أنهم انطلقوا من عوامل اجتماعية واقتصادية عندما قرروا تقسيم الصومال إلى 5 قبائل رئيسية، مثل مجتمعات رعوية وأخرى زراعية وثالثة تمارس صيد الأسماك، وهكذا، فإذا اتفقوا على كيان واحد فليس معناه أنهم قبيلة واحدة، بل يعني ذلك أن لديهم قاسما مشتركا، وبالتالي فإني لا أرى هذه الخطوة حلا نهائيا يؤدّي إلى السلام، لذا لا بد من تجاوز هذه المرحلة، لكن الصوماليين مُصرّون حتى الآن على النظام القبلي، الّذي هو مرحلة تاريخية مرت عليها مختلف شعوب العالم، بل ويوجد في الوسط الصومالي قبائل أو كيانات تخطوا النظام القبلي، إذ إن انتماءك الوطني يختلف تماما عن انتمائك القبلي، فمثلا كيانات “شبيلي”، وهي مجموعة على ضفاف نهر شبيلي، و”شيدلي” وهي مجموعة أخرى تعتمد على إنتاج الأدوات من تصنيع الحجارة، و”رير مانيو” أو أهل الساحل”، أظن أنهم قد تجاوزوا مرحلة الاعتماد على القبلية، وإن كانوا في فترة من الفترات يعتمدون على النظام القبلي، ووصلوا إلى مرحلة ينتمون فيها إلى قطعة من الأرض أو حرفة من الحرف أو المهارات التي يتمتعون بها، وعليه فإنه يجدر بنا اجتياز النظام القبلي حتى يمكن لنا تأسيس دولة وطنية، إذ إن القبلية لا يمكن أن تبني لنا وطنا، لذا فنحن لا زلنا في فترة تعلوا فيها النعرة القبلية القائمة على الاقتصاد الرعوي الذي يجب هو الآخر الانتقال منه، وعليه فإني أرى أن الناس يبدؤون بإدراك الواقع تدريجيا مما يمهّد لتجاوز هذه المرحلة.
في الفترة ما بين 2003 – 2004م، تبنت الصومال النظام الفيدرالي، برأيك هل يمثل هذا النظام الفيدرالي حلا للأزمة الصومالية؟
مبدئيا، النظام الفيدرالي نظام جيدا جدا إذا ما توفرت له كيفية تطبيقه، وهناك العديد من دول العالم التي تنتهج هذا النظام، لكن في الحالة الصومالية أرى أنه بداية محاولة للانتقال من النظام القبلي إلى نظام تكوين الولايات والأقاليم، كمرحلة مؤقتة لحل المشاكل الصومالية، لكنني أستغرب دائما لماذا نركّز في السياسة أكثر من غيرها من الجوانب الأخرى؟ لماذ لا يتم النظر إلى الجوانب الأخرى لإعادة استقرار الصومال؟ وفي نظري أن القائلين بإقامة نظام فيدرالي تبدى لهم أنهم لما استطاعوا تقسيم المجتمع الصومالي إلى 5 قبائل رئيسية يمكن أن يؤسسوا لهم 5 ولايات إقليمية. وبالمناسبة يناسب النظام الفيدرالي وطنا عنده إمكانيات مادية هائلة، فإذا غاب الاقتصاد المسيّر لهذه الأشياء، فمن العسير استمرار هذا النظام، وإذا نظرنا إلى المستوى الاقتصادي للصومال، فسنرى أنه في ذيل القائمة، ولذا فإن مما يتصادم مع الواقع أن يدعو أفقر شعب في العالم إلى انتهاج النظام الفيدرالي! من أين تأتي المصادر الاقتصادية لتسيير شؤون حكومات الولايات الإقليمية الـ 5 أو الـ 6، وكيف يتم صرف رواتب مسؤولي هذه الولايات من رؤساء ونواب، ووزراء وموظفين مدنيين، وما إلى ذلك، لكن من الممكن أن يكون حلا مؤقتا لإرضاء المجموعات القبلية في كل ولاية، غير أنه لن يكون من وجهة نظري حلا أبديا للأزمة الصومالية، وبالتالي لا بد من وجود نظام آخر، أما النظام الحالي، فإني أعتقد أنه قد يكون مرحلة من مراحل تكوين الأقاليم الصومالية التي كانت تتغير بتغير الظروف السياسية والتاريخية، ولذا ستكون الصومال مقسمة إلى 5 أقاليم رئيسية، كل إقليم ينتخب محافظه بدل رئيس الولاية، وعموما ليس لدي مشكلة من انتهاج النظام الفيدرالي كإجراء مؤقت لحل الأزمة الصومالية، اعلم يا عبدالنور، أنه إذا تم الاتفاق على أن القبلية أحد أسباب انهيار الصومال، فإن إقامة ولايات إقليمية على أساس قبلي، ما هو إلا تكريس للمشكلة وتعزيز للقبلية، ولذا فإني أعتقد أن الفيدرالية ليست وسيلة سياسية لحل الأزمة الصومالية.
بالنسبة للتاريخ الإسلامي في الصومال، تشير بعض المصادر إلى أن الدّين الإسلامي قد وصل إليها في الهجرة الأولى قبل وصوله إلى المدينة، كما تشير المصادر أيضا إلى أنه كان للصومال حضارة وثقافة دينية مما أنتج لها علماء كبارا، فما أسباب اندثار التراث الديني والتاريخي للصومال؟
أعتقد أن مجيء الإسلام إلى الصومال لم تُجر حوله دراسات معتمدة، وهو من الحلقات المفقودة أو التي يحيط بها الغموض في تاريخ الصومال. نعم كانت هناك هجرات وصلت إلى القرن الإفريقي مثل الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة، فإذا رجعنا إلى المراجع التي تتحدّث عن هذه الهجرات، التي ألّفها علماء عرب كبار، كابن هشام وابن إسحاق وغيرهما، نجد أنهم يسردون أسماء الأشخاص، ومدة إقامتهم، وأسماء الأماكن التي وصلوا إليها، وعدد الّذين توفّوا منهم في هذه المناطق، وعليه، فإنه مما لا شكّ فيه أن الإسلام وصل إلى هنا في وقت مبكر جدّا. وإن مما يوضح وصول الإسلام إلى منطقة ما، الآثار الإسلامية الموجودة فيها، مثل الكتب التي ألفها العلماء المسلمون هناك، وبما أن الإسلام ينتشر بوسائل مختلفة كالتجارة فلا بدّ من وجود أسماء التجار الأوائل الّذين وصلوا إلى المنطقة ومحلاتهم أو مراكزهم التجارية، كما ينتشر الإسلام بالفتوحات العسكرية أو بالهجرات المختلفة، لكننا عندما نظرنا إلى تاريخ الإسلام في الصومال، فمن غير الواضح الجهة التي قدّمت إلى البلاد الإسلام، إلا أن هناك من ينظر الأمر من زاوية العوامل الجغرافية، مثل الجوار وقرب الإقليم الشمالي إلى الوطن العربي، مما أدى إلى أن يسلموا بأن الإسلام وصل إلى الصومال من الشمال. وإنني فنّدت النظرية القائلة بأن الإسلام جاء من الشمال، واعتقد أن الإسلام جاء من الجنوب لأسباب منها: الهجرة إلى الحبشة وهنا يجب تحديد الحبشة، فإذا ثبت أننا لسنا من الحبشة، فذاك موضوع آخر، لكن كان هناك تعقب للمهاجرين من قبل كفار قريش مكة، وعلى الرغم من أنهم باؤوا بالخسران إلا أنه من طبيعة البشر أن لا يقيم بالقرب من مكان هجرته، السبب الثاني سلوك طريق يؤدّي إلى المحيط الهندي تجنبا لخليج عدن ومدخل البحر الأحمر الذي كان في فترة من الفترات ولا يزال حتى الآن مسلكا بحريا وعرا تغرق فيه السفن، وهو ما وصفه الجغرافي الكبير المسعودي الّذي صور في كتابه أمواج البحر الأحمر المتلاطمة وما يترك ذلك من خوف لدى المسافرين، السبب الثالث أن المهاجر دائما يبحث عن منطقة أفضل اقتصاديا من موطن هجرته، ولذا، فإن هجرة الشخص من شبه الجزيرة العربية شبه الصحراوية إلى العدوة الأخرى من البحر الأحمر في شبه الجزيرة الصومالية وهي منطقة شبه صحراوية، لا تحدث فرقا، مما يعزّز أن المهاجرين اتّجهوا جنوب الصومال حيث تتوافر مياه الأنهار، واخيرا إن الإسلام عند انتشاره يحتاج إلى منطقة مأهولة بالسكان، وهو ما لا يتوفر في الشمال، حيث يقل فيه السكان، أما الجنوب فهناك قرى عديدة مأهولة بالسكان مما يتيح نشر الإسلام للمهاجر أو التاجر المسلم. وليس هناك فتح إسلامي في هذه المناطق على خلاف المناطق الأخرى التي شهدت الفتوحات الإسلامية مثل مصر وشمال أفريقيا، وهناك كتاب اسمه “فتح مصر”، وتسجل الكتب التي تؤرخ للفتوحات يوم دخول القوات الفاتحة للمنطقة وتعيين الوالي عليها وجباية الخراج، وما إلى ذلك، مما لا يوجد في هذه المنطقة، مما يؤكّد انعدام الفتح الإسلامي فيها، وبالتالي يأخذ وصول الإسلام إليها إحدى صورتين هما الهجرة وممارسة التجارة، وعلى هذا الأساس، فقد انتشر الإسلام في الصومال بإحدى الوسيلتين الأخيرتين، ولا أعتقد حدوث فتح فيها على الرغم من الروايات التي تشير إلى بعض البعثات العسكرية، ومن هنا فقد تلقى الصوماليون الدين من العلماء الأوائل الذين وصلوا إلى هذه المناطق، وبالتالي نشر الصوماليون الإسلام وأسسوا مراكز دينية وتعليمية كثيرة، لذا لا بدّ أن نعتز بعلمائنا ونعطيهم حقهم لما بذلوه من جهود في نشر الإسلام من الجنوب إلى الغرب إلى الشمال، بل أوصلوه إلى بعض البلدان العربية حيث وُجد علماء صوماليون أقوياء في اللغة والدين وفي علم الحديث، في كل من مصر والشام والحجاز، وقد لعب الزيلعيون دورا كبيرا في ذلك، فمثلا، عندما يتعلق الأمر بتعلّم الشريعة الإسلامية، وخاصة حفظ القرآن الكريم يلمع اسم الشيخ الكبير أو برخدلي ويعرف أيضا بيوسف الكونين الّذي كان معلما لتحفيظ القرآن ووليا من الأولياء، والّذي أضاف منهجا جديدا في التعليم القرآني، حيث حوّل تهجي الحروف العربية إلى اللغة الصومالية (الماي)، وسهل للصغار التهجي، مما ساهم لاحقا في سهولة حفظ القرآن الكريم، كما استحدث العلماء الصوماليون “اللقبة” والتي تعني عندهم الترجمة، فكانوا يترجمون الكلمات العربية من العربية إلى اللغة الصومالية، مما يعني إحداث منهج جديد في التعليم … فالطفل الصومالي يستطيع قراءة وكتابة لغة غير لغته الأم، وهذا منهج عجيب جدّا، فهذه اللغة ليست لغته الأم التي يتحدث بها، لكنه يستطيع كتابتها وقراءتها وإن كان يصعب عليه فهم معانيها، لكن الذي استحدث “اللقبة” أفاد له شيئا إضافيا. حيث أوجد معنى لما كان قد يكتب ويقرأ، فانتشرت مدارس على طول هذه الأرض تبرز دور علمائنا في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وقد وضع علماؤنا هذا المنهج في وقت قديم، ويجدر بنا أن نفتخر به، نظموا معاني القرآن الكريم، من بينهم الشيخ أويس البراوي، الشيخ عبدلّي إسحاق البارطيري، الشيخ أحمد غبيو من عذلي، الشيخ علي مجيرتين في مركا، وضعوا مناهج جديدة ، تتيح لراعي الإبل الأمي الّذي لا يقرأ ولا يكتب العربية استذكار هذه الأشعار والاستدلال بها، إذ كانت هناك أشعار بلغتهم حول عدة المرأة وقسمة الإرث، فإذا، لا أعتقد صحة صيغة السؤال، فهناك تراث لعلمائنا الأقدمين، ولكنه بحاجة إلى نفض الغبار عنه والاهتمام به، وأكبر مشكلة مسكوت عنها حلت بنا خلال فترة الانهيار، هي أنني أتذكّر أنني عندما كنت في كل من أكاديمية الفنون، والمتحف القومي والمطبعة الوطنية، أنه كان هناك أقسام لحفظ المخطوطات، وعندما زرت قبل أيام الأكاديمية، أبلغني عبدالقادر نور ماح أن شخصا ما استولى على مكان المكتبة بعد أن أحرق الكتب ونظفها، سكن المكتبة ولا يزال يسكنها حتى الآن، وأين المتحف الّذي كان توجد فيه كتب قديمة جدّا؟! كان المتحف القومي يقع جانب فندق “العروبة”، ليس المراد هذا الجديد الّذي لا يوجد فيه شيء! اقرؤوا كتاب العبر لابن خلدون الّذي يتحدث فيه بعمق عن الرعاة وأنهم أناس يفتخرون بالتخريب والتّدمير! فأظن أن مثل أولئك هم من دمروا وضيعوا كل ما من شأنه أن يشكل مصدرا أو مرجعا تاريخيا، لقد احترقت المكتبات التي أنشأناها … لكن ما يخصنا ويخصكم- أعني المقيمين في البلاد- هو جمع ما تبقى من تلك لمصادر والحصول على الأقل على عنواين تلك الكتب، لكن وبصراحة، علماؤنا الذين نشروا الدين كان دورهم مشرقا ليس فقط في الصومال وإنما في الإقليم كله، حيث يدرس في الجامعات العربية كتب اللغة كالنحو والصرف والبلاغة التي ألفها الشيخ عبدالرحمن الزيلعي، وكانت أيام دراستي الجامعية من المراجع المعتمدة، ومن مؤلفات علماء الصومال “نصب الراية لأحاديث الهداية” للزيلعي والذي يقع في 4 مجلدات كبيرة ، وكان محدثا بارعا، وهو صومالي زيلعي حنفي، وتبيين الحقائق لشرح كنز الدقائق للفقيه فخر الدين الزيلعي وإذا زرت اليوم تركيا مثلا ترى كيف الناس يعتكفون على دراسة كتبهما، أعتقد أن بعض الكتب ضاعت لكن علينا أن نقوم بالبحث عنها.
وأخيرا، عندما انهارت الدولة الصومالية نزح العديد إلى الخارج وتكاثروا هناك، مما يعني ظهور أجيال صومالية جديدة لا تعرف كثيرا عن ثقافة الآباء والأجداد ولغتهم، فما نوع تأثيراتهم عند العودة إلى البلاد؟
قد يكون لهم تأثيرات إيجابية وسلبية، هؤلاء الذين وُلدوا في الخارج سيواجهون تحدّيات عند عودتهم إلى البلاد حيث لا يعرفون اللغة إلى جانب جزء كبير من عادات وتقاليد الصومال، لكن في المقابل، من الإيجابيات أنهم في حال عودتهم إلى البلاد قد يفيدونها بما اكتسبوه من معارف وخبرات ، وهذا من باب “ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”، حيث سيحذّرون قومهم من التصرفات الخاطئة وما يتمخض عنها من عواقب وخيمة، فمن هذا الجانب، تشكل عودتهم خطوة إيجابية، أتمنى أن يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، أما التحدّيات التي قد يواجهونها فأرى أنها قد تكون مرحلية، إذ إنهم إذا استوطنوا هنا فسيخرجون أجيالا أخرى، فأطفالنا الذين ولدوا في الخارج وأحفادنا هناك يعيشون في حالة من الضبابية، لكن عما قريب سيتساءلون عن جذور أجدادهم وأصولهم، ويبحثون عن تواريخهم، ومن المهم تعريفهم بأصولهم، وأنا أدعو الصوماليين في ديار الغربة إلى توفير أي أثر للأطفال والأحفاد في الخارج، وعليه فأعتقد أن التأثير في الجانب الإيجابي يكون هو الأقوى.
شكرا جزيلا لك يا سعادة البروفسور