لو سألوني .. رسالة إلى أهلنا في بلدان الربيع العربي
علي حلني
آخر تحديث: 21/02/2016
علي حلني / كاتب وصحفي صومالي
مرت خمس سنوات على الأحداث التي أعطيت اسم “الربيع العربي” والتي اجتاحت بلداناً عربية مهمة (مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا) وكادت أن تهز بلداناً عربية أخرى لولا عناية الله وحكمة أهلها. كثيرون تحدثوا عن هذا الربيع العربي سلباً أو إيجاباً، لكنني أنظر إليه من زاويتي الخاصة.
شهدتُ سقوط أول عاصمة عربية (مقديشو 1991) كنتيجة للحرب القصيرة نسبيًّا والدامية أيضا بين فصائل المعارضة الصومالية القبلية، وبين الجيش الوطني، ولكنني لم أكن واعياً بما يكفي آنذاك، بحكم سنّي أولاً وبحكم إدراكي المتواضع لما كان يجري حولي من أمور.
وشهدتُ سقوط ثاني عاصمة عربية (بغداد 2003) نتيجة للغزو الأميركي للعراق، وفتحت عيني على آفاق جديدة وأبعاد الصراع الدولي والإقليمي المعقد والذي أفضى فيما بعد إلى نتائج قد تعمّر مضاعفاتها مع العالم العربي عقوداً طويلة.
لست واثقاً تماماً، ولكنني أقول أتمنى أن تتجاوز مصر وتونس مضاعفات الربيع العربي، وإن كانتا مثخنتين بالجراح، ولكن عندما أتأمل الوضع في سوريا وليبيا واليمن تعود بي الذاكرة إلى لحظة سقوط مقديشو قبل 25 عاماً وما تبعه من مآسٍ وطنية وإقليمية ودولية. ومع طول هذه المدة فإن الصومال لم تستقر على شيء يمكن الاطمئنان له بعد.
في عام 1991 وبعد أسابيع قليلة من سقوط مقديشو وهروب الرئيس الراحل محمد سياد بري (رحمه الله) من العاصمة، بدأت مبادرات دولية وإقليمية قيل في حينها إنها تهدف إلى إنقاذ ما يكمن إنقاذه، وانعقدت مؤتمرات ومؤتمرات هنا وهناك، وكان عدد فصائل المعارضة المنتصرة يُعد على أصابع اليد الواحدة. وبعد فترة وجيزة تناسلت هذه المعارضة بفعل الانقسامات والانشطارات إلى أن وصل عددها إلى أكثر من 70 فصيلاً، لكل منها منطقة يسيطر عليها ومليشيات تقاتل وعواصم إقليمية ودولية تساند، إلى جانب فصائل أخرى لا تقاتل ولكن لها حضور في الخارج!
كانت موائد الحوار الصومالية تعقد في هذه العاصمة أو تلك، وفي الوقت الذي كان فيه رؤساء الفصائل الصومالية يتحلقون حول هذه الموائد في الفنادق الفاخرة وهم يلبسون البدلات الأنيقة، كانت ميليشياتهم المسلحة تحرق مزارع الموز وتنهب المؤسسات ويدمرون كل شيء، ويقتلون الأبرياء وغير الأبرياء ثم يكتبون كلمة “الله أكبر” بدماء ضحاياهم!
كانت سنوات غاب الصوماليون فيها عن العقل والوعي، بعضهم بسبب نشوة الانتصار، والبعض الآخر بسب الثأر والانتقام، وكان يُقتل الشخص بمجرد انتمائه إلى القبيلة الفلانية (لحسن حظ الصوماليين لم تكن هناك هويات طائفية وإنما قبلية فقط) واحتار الباحثون وعلماء الاجتماع في المسألة الصومالية؛ لأن التجانس بين الصوماليين قل نظيره في العالم فهم موحدون في كل شيء تقريباً (العرق، اللغة، الدين، المذهب) ولكن ذلك لم يمنعهم من الاقتتال.
عندما أنظر إلى الوضع في اليمن وليبيا وسوريا وهؤلاء الشباب الذين يتمنطقون الكلاشنيكوف ويطلقون شعورهم ثم يرمون الرشاشات والقذائف وهم منتشون يغمرني شعور بالهلع، وأقول “لو سألونا”. نحن الصوماليين سلكنا هذا الطريق ولقينا ما لقينا، وليس لائقا بعربي بعدنا أن يفعل هكذا إلى أن يعود له وعيه بعد عشرين عاما -هذا إذا كان محظوظاً- ليجد نفسه وقد خسر كل شيء؛ الوطن والبشر والسيادة، وما هو أهم؛ السلامة النفسية.
ذهب الصوماليون على مدى أكثر من عقد ونصف إلى القارات الخمس ليشاركوا في مؤتمرات عقدت للمصالحة بينهم، وكانت الكعبة المشرفة من بين هذه المحطات وتعلقوا بأستارها وهم يبكون، لكن ذلك لم يكن كافياً لإثارة ضمائرهم. تماماً كما يفعل اليمنيون والسوريون والليبيون هذه الأيام، سمعنا عن مؤتمرات جنيف، وإسطنبول والقاهرة والصخيرات وغدامس، والبقية تأتي.. وربما سيعقد أحدها في هاييتي أو كوريا الشمالية!
قيل قديماً إن الحروب الأهلية هي إحدى أبرز مراحل تطور البشرية، وهذه ربما تكون حقيقة رغم قسوتها، لكن ينبغي أن يكون أهلنا في بلدان الربيع العربي واعين بما يحدث حولهم. أرى نفس البدلات الأنيقة وربطات العنق الجميلة التي يرتديها السوريون والليبيون واليمنيون المتحاورون، وأرى التصريحات البليغة التي قد توقظ المتنبي من قبره، في الوقت الذي تلتهم فيه النار كل شيء في الداخل، ويفر المواطنون المساكين بجلدهم وما تبقي من عيالهم إلى المنافي وتُجهز مافيات التهريب بما تبقي منهم أيضاً.
هذا المشهد تكرر عندنا في الصومال، واتخذ مسارات كثيرة، وحشرت دول كثيرة أنفها فيه إلى أن وصلنا إلى قناعة بأن “الصوماليين ليسوا متنازعين فيما بينهم فقط، وإنما متنازع عليهم أيضاً”. وهذا ينطبق بالكامل على ما يجري في سوريا وليبيا واليمن، فالصراع الأهلي بين الأطراف في هذه البلدان ربما يمثل جزءاً بسيطاً من التصارع الكبير عليها.
ستتحدث الدول المتنازعة على البلدان العربية الثلاث عن إجراءات جديدة ومبادرات للصلح، وسيتم الإعلان عن دعم سخي بالمليارات لهذه الدول أيضاً، ولكن يأتي يوم قريب يسأل الليبيون والسوريون واليمنيون أنفسهم، أين ذهبت هذه المليارات؟ وحينها لن يجدوا جواباً. سندخل في عملية جديدة أيضاً لكتابة الدستور الانتقالي لهذه الدول وسيستغرق ذلك 10 سنوات على الأقل، وتذهب الأوراق إلى هنا وهناك وتعود أيضاً دون أن تحمل شيئاً والنيران تلتهم ما تبقّى شيئا فشيئا إلى أن يتم إنهاك الجميع وحينها تخرج جميع الأوراق من أيديهم.
أقول للنخبة في البلدان الثلاث التي تحلم بشيء من الكعكة أن غالبيتهم لن تحصل على شيء، عدا انتفاخ الأوداج والتنفيس عن الغضب بكلام لا يسمن ولا يغني من جوع، والطيبون من الذين يتصدرون المشهد حاليا سيموتون من الهم والغم، وهذا ما حدث عندنا في الصومال تماماً، وسيؤول الإرث السياسي إلى مجموعات أخرى لم تخض حرباً ولم تشارك في مؤتمرات، فتبدأ الطفولة السياسية مجدداً إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لست واعظا يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكنني أري نخبة عربية تصر على أن تجرب المجرب، وتقدم تصورات “عبيطة” للمستقبل، ناسية أو متناسية خطورة ما يقدمون عليه، وفي نفس الوقت تٌقدَّم لنا إعلاميًّا على أنها متنورة ومناضلة وتسعى إلى إحلال السلام في بلدانها (سوريا واليمن وليبيا) وهي تفعل عكس ما تدعو إليه (الحرب).
ولله در الشاعر العربي القديم امرئ القيس بن حُجر بن الحارث الكندي (520 -565م) الذي قال قبل نحو ألف وخمسمائة سنة:
الحَرْبُ أوّلَ مَا تَكونُ فُتَيّةً ** تَبْدُو بِزِينَتِهَا لِكُلّ جَهُولِ
حتى إذا حَمِيّتْ وَشُبّ ضِرَامُها ** عادَتْ عَجوزاً غيرَ ذاتِ حَليلِ
شَمطاءُ جَزّتْ رَأسَها وَتَنَكّرَتْ ** مَكْرُوهَةٌ للشَّمّ وَالتّقْبِيلِ
إلى اللقاء في هاييتي أو كوريا الشمالي.
المصدر: هافينغتون بوست عربي