مستقبل الاستثمارات النفطية في جنوب السودان وتأثيرها على حياة شعبه
صفاء عزب
آخر تحديث: 6/10/2019
القاهرة- عندما ظهر البترول في الأراضي السودانية قبل عدة عقود استبشر أهلها خيرا في أن يؤدي ذلك إلى تحسن أحوالهم المعيشية أسوة بالدول البترولية المحيطة بهم في العالم، إلا أنه سرعان ما تبددت هذه الأمنية مع انفصال الجنوب عن السودان الأم وبحوزته ما يقرب من ثلاثة أرباع الثروة البترولية في الأراضي السودانية كلها، ما يعني تركز عوائد هذه الثروة في خزينة الجنوبيين. وعلى ذلك انتقل الحلم إلى أبناء جنوب السودان في ارتفاع مستوى معيشتهم من موارد ثروتهم التي أصبحت تحتضنها أراضيهم، إلا أن اشتعال الحروب الأهلية واستمرار الصراعات الداخلية أدى إلى وأد هذا الحلم في مهده بعدما توقفت عمليات التنقيب أو تراجعت بشكل كبير في أحسن الأحوال.
حينما انفصل الجنوبيون عن السودان الأم عام 2011 كان إنتاجهم من البترول في أعلى مستوياته حيث بلغ 350 ألف برميل يوميا، ثم حدث التراجع بعد عامين مع الإنزلاق في الحروب الأهلية التي لا تنتهي. ويعتمد اقتصاد جنوب السودان بشكل أساسي على إيراداته النفطية بنسبة تقترب من 95% الأمر الذي يجعل اقتصاد الدولة الحبيسة في الشرق الإفريقي حساسا للتغيرات ذات الصلة بصناعة النفط، لذلك عانى جنوب السودان كثيرا ولا زال يعاني من سوء الأحوال الإقتصادية والمعيشية والصحية بسبب توقف صناعة النفط في الجنوب لأكثر من عام وتوقفت معه مختلف الأنشطة الإقتصادية بما يشبه حالة من الشلل نتيجة للنزاع الذي حدث مع السودان عام 2012 بشأن رسوم استخدام خط أنابيب الأخيرة، وعجز جنوب السودان عن دفع مستحقات الموظفين والجنود. وهو ما يؤكد الدور الحيوي للجارة السودان الأم لما تمثله من منفذ حياتي على التجارة العالمية ومعبر لصادراتها النفطية إلى دول العالم.
يبلغ إنتاج النفط في جنوب السودان حاليا ما يقرب من 160 ألف برميل يوميا وفق تصريحات رسمية سابقة للوزير إزيكيل لول جاتكوث، مؤكدا على أن احتياطات بلاده من البترول تبلغ 3.5 مليار برميل، ولم يُستكشف منها إلا 30% فقط، وهو ما تعول عليه الحكومة في جنوب السودان على النجاح في رفع الإنتاج من البترول إلى 350 ألف برميل يوميا بحلول عام 2020 لاستعادة نفس المستوى الذي كان عليه إنتاجهم النفطي في فترة الذروة بعد انفصالهم عن السودان وقبل انخراطهم في حروبهم الأهلية.
لا شك أن هذه الأرقام تعكس واقعا طيبا ومستقبلا مشرقا لإنتاج النفط في جنوب السودان، سيما في ظل الإهتمام الدولي الكبير وشركات النفط العالم بالتنقيب عن البترول في شرق إفريقيا ومنها جنوب السودان. لقد وافقت وزارة البترول في جنوب السودان على تمديد العقود لعدة شركات بترولية دولية منها شركة النفط الوطنية الصينية، وشركة النفط والغاز الطبيعي الهندية، وشركة بتروناس الماليزية، إضافة إلى شركة النيل للبترول التي تديرها الدولة في جنوب السودان. كما شهد جنوب السودان استئناف النشاط التنقيبي لاستخراج الذهب الأسود في عدة مناطق كانت معطلة لأسباب متعددة منها حقل توما ثاوث النفطي، الذي تعطل الإنتاج فيه منذ عام 2013 والذي يضخ ما يقرب من 20 ألف برميل يوميا وهو ضمن خمسة حقول نفطية كانت معطلة وتجري صيانتها حيث يصل إنتاجها جميعا إلى 80 ألف برميل يوميا. ويضاف إلى ذلك ما كشفه مؤخرا أوو دانيال شوانق وزير نفط جنوب السودان من أن بلاده حققت كشفا نفطيا صغيرا في ولاية شمال أعالي النيل، هو الأول منذ الانفصال عن السودان في 2011. ويقع الحقل الجديد في منطقة عدار ويحتوي 5.3 مليون برميل من النفط القابل للاستخراج، وسيجري ربطه بحقول بالوش النفطية القريبة، التي تديرها شركة دار لعمليات البترول.
من ناحية أخرى يسعى جنوب السودان لخلق فرص واعدة لدعم الإستثمارات النفطية على أرضه وتطوير صناعة النفط وهو ما كان دافعا للتعاون مع بعض دول الجوار ومنها مصر والتي عقد مسؤولوها من وزارة البترول والثروة المعدنية اجتماعا مهما بالقاهرة مع وفد نفطي من جنوب السودان بقيادة المهندس أوو دانيال شوانق لبحث آفاق التعاون المشترك وتقديم الخبرات المصرية في قطاع البترول الى جمهورية جنوب السودان بما يعود بالنفع على الجانبين. ومن المنتظر أن يلبي الطرف المصري دعوة وفد جنوب السودان لحضور مؤتمر جنوب السودان للنفط والطاقة تحت رعاية الرئيس سيلفا كير يومى 29 و30 أكتوبر الجاري. وعلى جانب آخر يعمل جنوب السودان على تحسين العلاقات مع السودان الأم لضمان وجود منفذ لتصدير نفطه للأسواق الخارجية، حيث أدى تعكر العلاقات إلى خسائر كبيرة لجنوب السودان بسبب توقف تصديره للنفط كما حرم الإقتصاد السوداني أيضا من فرصة الحصول على عوائد رسوم عبور النفط الجنوبي والتي تسهم في تعويض ولو جزئيا لفقدانه ثلاثة أرباع ثروته النفطية بعد انفصال الجنوب عنه. وقد أعلن الجانب السوداني عن موافقته على مراجعة الاتفاقيات النفطية مع جنوب السودان، المتعلقة بالمعالجات ورسوم عبور نفط الجنوب عبر منشآت بلاده إلى الموانىء الخارجية. وقد أشار وزير النفط السوداني عادل علي إلى أن الإتفاق الجديد بين الجارتين سيكون لمنفعة البلدين في تنفيذ مشاريع استثمارية مشتركة بشكل أفضل مما كان عليه الحال في الإتفاق السابق. وخلال فترة الخلاف مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير لجأت حكومة جنوب السودان إلى منافذ بديلة لتصدير نفطها الحبيس واتجهت للتعاون مع كينيا وإثيوبيا إلا أن بعد المسافة مقارنة بالجارة السودان كبدها تكاليف أكبر، ومن ثم فإن نجاح جنوب السودان في تعظيم الإستفادة من استثماراتها النفطية يتطلب دعم التعاون مع السودان وهو أمر بات واقعيا في ظل الأجواء السياسية الجديدة، كما أنه يتمشى مع تلبية الإحتياجات السودانية من الدعم المادي لميزانية الدولة من خلال رسوم عبور النفط عبر موانيها.
يبقى أمر واحد لكنه حيوي ولا يمكن أن تتحقق الطموحات الإقتصادية البترولية في جنوب السودان بدونه وهو الإستقرار والقضاء على الحروب الداخلية حتى يتسنى التفرغ لعملية التنمية وتوفير أجوائها المطلوبة. فإذا كانت هناك بادرة طيبة لاستئناف التعاون النفطي بين السودان وجنوب السودان بعد فترة من الخلافات ، فإنه يجدر بأبناء الجنوب أنفسهم أن يرتقوا فوق المكاسب الشخصية المحدودة وتغليب الصالح العام ومصلحة البلاد من أجل التمكن من الإستفادة بما رزقهم الله به من ثروات والتمتع بعوائده في تحسين مستويات المعيشة بدلا من جعلها وقودا لنيران الحروب.