جيبـــوتي.. اقتصاديات القواعد العسكرية (الجزء الأول)
عبد الله الفاتح
آخر تحديث: 21/04/2019
قراءة التقرير أو تنزيله بصيغة بي دي اف انقر هنا
التقرير الأسبوعي
الرقم 60
مدخـــــــــل:
تكتسب جمهورية جيبــــــوتي أهميـــة بالغة في الاستراتيجيات الدوليـة، نتيجــــــة لاعتبـــــــارات وخصائص جيوستراتيجية تتميـــــز بها هـــــــذه الدولة العربيـة الإفريقيـة الصغيـرة، وتستمدها من موقعها الجغرافي والاستراتيجي الأكثر انتعاشـــــــاً وشراكة وتأثيــــراً في العلاقات الدوليــــــة، من حيث سيطرته على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، أحد أهم طرق الملاحــــــــة البحريـــــــة في العالـــم، وهو ما جعـــــــلها مطمعاً للدول الأوروبيـــــة إبان فتـــــــرة الاستعمــــــــــار.
كما أن كثرة المشاكل وتعقيداتها المحيطة بالقرن الإفريقي، قد سلطت الضوء بشكل أكثر سطوعاً على ضرورة الاهتمام بهـــــــذه الدولة وادماجها في فضاءات الاستراتيجيات الدوليـة، لا سيما بعد بروز وتصاعد دور التنظيمــــــات الإسلامية المتطرفة في العديد من دول المنطقــــــة، باعتبار ذلك مهــــــدداً أمنيــــــاً في ارتباطـــــــه بالاستراتيجيـة الدوليـــــة لمكافحة الإرهاب ومنــــــع انتشـــــــاره في مناطق حيوية لحركة الملاحـــــــة البحرية الدوليـة بما لها من تأثيــــــــــرات كبيرة في النشاط الاقتصـــــــاد العالمي وتحركات مؤشرات الأسواق العالميـة، الأمر الذي يجعــــــــل جيبــــــوتي محط اهتمــــــــام الدول الكبرى والقوى الإقليمية الصاعدة ويدفعها للنفوذ والسيطرة من أجل حماية مصالحها الأمنية والاستراتيجية.
وتستضيف جيبــــــوتي على أراضيها العديد من القواعد العسكرية الأجنبية، بعضها معروف رسميــــاً في حين لا يتوفر كثيــــر من المعلومات عن القواعد الأخرى، وبالتالي أصبحت معتركــــاً للتنافس وصراع المصالح لبعض الدول الغربيـــــــة ذات النفوذ التقليدي وقوى دولية وإقليمية أخرى كالصيــــن وإيطاليا واليابان وغيرها وهو الأمر الذي سنتناوله في الفقـــــــرات التاليـة:
1. الوجود العسكري الفرنسي:
ترتبط جيبــــوتي منــــذ استقلالها عام 1977م، باتفاقيـات دفاع مشترك مع فرنســـا تلتزم بموجبهـا الأخيرة بحماية الأمن الجيبــــــوتي من العدو الخارجي، وحماية المطارات والموانئ والمؤسسات الرسمية في الدولة بالإضافة إلى الدعم الذي تقدمه في المجالات التنموية والعسكرية والأمنية، وبالمقابل تستضيف جيبـــــــوتي أكبر القواعد العسكـــــــرية الفرنسية في افريقيـــــا.
وخلال السنوات الماضية، شهد عدد القوات الفرنسية انخفاضاً ملحوظاً وذلك في إطار خطة فرنسا لإعادة تنظيم قواتها في إفريقيا، ورغم ذلك تبقى القاعدة الفرنسية الأكبر والأهم من حيث القوات والوسائل، ويوجــــد فيهــــا حالياً حوالي 1576عسكرياً يتمركزون بشكل دائم، تضم وحدات من القوات البرية والجوية علاوة على وحدات من قوات الكوماندوس البحرية وقوات التدخل السريع، وتجعل الظروف المناخية من جيبوتي مسرحاً استثنائياً لتدريب الجنود للعتاد، بتمارين تشمل الأسلحة الأرضية والجوية والبحرية.
وفي ديسمبر 2011م، وقع البلدان على معاهدة تعاون جديدة في المجال الدفاعي، حلت محل اتفاقية “الدفاع المشترك” التي أبرمها الجانبان عام 1977م، وقال وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لدوريان؛ “إن هذه المعاهدة الجديدة تتيح لفرنسا الوصول إلى قاعدة استراتيجية في إطار مكافحة الإرهــــــاب، كما تؤكد لجيبوتي مواصلة الدعم الفرنسي لها في المجالين الأمني والدفاعي فضلاً عن عمليات التدريب المشترك.
2. الاهتمام الأمريكي بجيبوتي:
من حقائق التاريخ أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن دول استعمارية في إفريقيا، وإن كان الأفارقــــــــة ضحية للعبودية حين جلبهم النخاسة كأيادي عاملة لبناء مجد أمريكا الاقتصادي كأقنان في زراعة السكر والقطن والفول في ولاياتها الجنوبية.
لقد كان اهتمام أمريكـــــــا بإفريقيا والقرن الإفريقي خاصة محدوداً جداً، قبل أن تتحرك وتحــــــــل محل الدول الأوروبية بعد أفول عهد الاستعمار المباشـــــر، ثم تطور الوضع لتعزيز الوجود الأمريكي في المحيط الهندي خاصة قاعدتها العسكرية في جزيرة دييغو غارسيا لحماية مناطق إنتاج النفط والغاز في الخليج، وزاد ذلك الاهتمام الأمريكي بفعل المنافسة على مصادر الطاقة ومحاربة الإرهاب في المنطقة، ثم جاء التحول الهائل في السياسة الأمريكية تجاه منطقة القرن الإفريقي، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، فقد اتجهت الإدارة بقوة نحو تكثيف وجودها العسكرية في المنطقة.
وفي 19 من أكتوبر 2002م أمر البنتاغون بإنشاء قوة المهام المشتركة في القرن الإفريقي، ضمن عملية الحرية الدائمة (Operation Enduring Freedom).
ولم تستأذن الإدارة الأمريكية لا الحكومة الجيبوتية ولا قيادة القاعدة الفرنسية فيهـــــا، لإرسال قواتها لجيبوتي ثم البقاء فيها وإقامة قاعدة عسكرية دائمة هناك، وقد بلغ عدد القوات فيها 800 جنـــــــــــدي من القوات الخاصة، لحق بهـــــــم 1500 من المارينــــــز، ثم انضمت لهذه القاعدة حاملة الطائرات الأمريكية (US مونتي وتيني).
وكان من الخطوات الأمريكية الهامة، فصل قيادة القوات الأمريكية المعنيـــــة بإفريقيــــا عن القيادة الوسطى (CENTCOM) وإنشاء القيادة العسكرية المشتركة في إفريقيــــا (AFRICOM) والتي بدأت أعمالها رسميا في 12من أكتوبر 2007م.
وتستضيف جيبوتي حاليــــــاً أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في إفريقيــــــا، قاعدة “ليمونيـــــــــه” وتقع جنوبي مطار “حنبلي” الدولي بجيبــــــوتي، وفيهـــــــا ما يزيد عن 3500 جنــــدي أمريكي، ومنها تنطلق عمليات “مكافحة الإرهاب” التي تنفذها القوات الأمريكية في الصومال واليمن، إضافة إلى حماية المصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة.
وإقامـــــــة هذه القاعدة في جيبوتي التي يوجـــــــد فيها أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في الخارج، يعتبر مؤشـــــراً قوياً على التراجع الشديد لدور الدول الأوروبية الاستعمارية في مناطق نفوذها التقليدية، خاصة بعد تراجع السياسة الخارجية الفرنسية والألمانيـــــة عن مناوأة التوجهات الأمريكيــــة للسيطرة على الشأن الدولي والانفراد به.
وجـــــــاء الاهتمـــــــام الأمريكي بجيبـــــــــوتي في إطار استراتيجيتها للنفوذ والسيطرة، وبالتالي فإن إنشـــــــاء قاعدتها العسكرية في جيبوتي يتناغم مع هذه الاستراتيجية التي وضعتها للقرن الإفريقي الكبيـــــر الذي يضم دول القرن الإفريقي الجغرافي بالإضافة إلى الســــــودان وكينيـا وأوغندا وتنزانيــا ورواندا وبوروندي، لمراقبة المناطق التي يشتبه فيها الخطر والردع لأي تحرك يهدد أمن أمريكـــــــا ومصالحها، واحتــــــواء النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة، وبالتالي التحكم في مستقبل القارة الإفريقية من خلال القرن الإفريقي.
3. الوجود العسكرية للدول الأوروبية:
لم تغب الدول الأوروبية عن سباق التنافس على القواعد العسكرية في جيبــــــوتي، وهو ما اتضح جلياً من خلال تشكيلها قوة مشتركة أطلقت عليها اسم “العملية الأوروبية لمكافحة القرصنة” (ATLANTI) تركزت مهمتهاعلى تطويق جرائم القرصنة ومنع انتشارها في المناطق الاستراتيجية الهامة لحركة الملاحة الدوليــة.
ومن جهـــــة أخرى أوضح المفوض الأوروبي لشؤون التنمية والمساعدات الإنسانية جان لوي ميشيل، بأن الاستراتيجية الجديدة التي وضعها الاتحاد الأوروبي للقرن الإفريقي، تهدف إلى إتباع مســــــار أكثر كفاءة في التعامل مع قضايا المنطقة وسط منافسة جادة مع الولايات المتحدة والصين.
وكانت ألمانيا وجيبوتي قد وقعتا مطلع عام 2002م، اتفاقاً تاريخياً غير مسبوق يسمح للقوات الألمانية باتخاذ ميناء جيبوتي قاعدة مركزية لنشاطها في مراقبة السواحل الصومالية وتعزيز وجودها العسكري في القرن الإفريقي، كما نجح العديد من الدول الأوروبيــــة في إقامة قواعد عسكرية لها في جيبــــــــوتي، منها إيطاليا التي أنشأت قاعدة عسكرية صغيرة لها هناك، شأنها في ذلك شأن إسبانيا التي تمتلك قاعدة مماثلة لدعم العمليات الأوروبية في المنطقة، وقد لاقى الوجود العسكري الأوروبي ترحيباً واسعاً من قبل القيادة الجيبوتيــة.
4. القاعدة البحرية اليابانية:
تعـــــود جــــــــذور العلاقات الجيبوتية اليابانية إلى السابع والعشرين من شهر يونيــــــو عام 1977م، حيث اعترفت اليابان باستقلال الدولـــة الوليـدة وسعت لتوثيق العلاقات الثنائية معها في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والتكنولوجية.
ومع أن اليابان كانت تعتبر بعيدة عن محاور الصــــــراع الدولي المباشر على منطقة القرن الإفريقي، إلا أنها دخلت على الخط في عام 2009م، حيث أعلنت انضمامها لعمليات التحالف الدولي لمكافحة القرصنـة الصومالية.
وفي عام 2011م، نشرت اليابان فرقة تابعـــــة لقوات الدفاع الذاتي قوامها 180 جندياً في قاعدة عسكرية أقامتها على قطعة أرض مساحتها 12 هكتـــــــاراً بالقرب من مطار جيبــــــــوتي الدولي، وهي أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي منتصف عام 2016م، بدأت التفاوض مع حكومة جيبوتي بخصوص استئجار أراضي إضافية لتوسيع قاعدتها العسكرية لموازنـة ما تعتبره نفوذاً صينياً متزايداً بالمنطقة، وبعد حصولها على الموافقة بدأت وزارة الدفاع اليابانية في منتصف عام 2017م، توسيع المرفق إلى 15 هكتـــــاراً.
ومن المتوقع أيضاُ أن تبــــدأ بتنفيذ المرحلة الثانية من خطــــــــــة توسيع القاعدة وزيادة عدد القوات المتمركزة فيها، لتشمل مجموعــــة واسعة من المهمات غير مكافحة عمليات القرصنة.