التعدين .. قاطرة التنمية الإقتصادية في إريتريا
صفاء عزب
آخر تحديث: 6/02/2019
القاهرة- يعد الاقتصاد الإريتري من الأنظمة الإقتصادية الضعيفة التي ينقصها نهضة تنموية بالصناعة والزراعة والخدمات وغيرها، ويعتمد على موارد مالية متواضعة كالضرائب وتحويلات الإريتريين بالخارج، إلى جانب المعونات الإنسانية الدولية. وعلى مدار السنوات الأخيرة التي شهدت حظرا خانقا للدولة الإريترية واقتصادها الهزيل، حاولت الحكومة الاريترية التوسع في الاستكشافات التعدينية والبحث عن الذهب بالتعاون مع شركات عالمية كبرى من أجل الحصول على مصادر أكبر للدخل تعين الحكومة على الإنفاق على توفير الاحتياجات الأساسية للشعب. ووفقا لتقارير بنك التنمية الإفريقي، عانت إريتريا من انهيار اقتصادي كبير خلال الفترة من “1998- 2010” وكانت تعتمد خلال تلك الفترة على التحويلات وضريبة الشتات، والتي حرمت منها في ظل فرض العقوبات الدولية عليها، ومن ثم عولت كثيرا على قطاع التعدين في تمويل الموازنة العامة.
تتمتع إريتريا بموقع جغرافي متميز بمحاذاة الساحل الغربي للبحر الأحمر ما جعلها ضمن منطقة أرض المعادن، والتي أثبتت الدراسات الجيولوجية أنها تستأثر بنحو 70% من الحجر الأخضر بالمنطقة والذي يرجح ثراؤه بالمعادن الثمينة وعلى رأسها الذهب، والفضة. وتعد منطقة بيشة غرب إريتريا غنية بالذهب وتحتضن في أعماقها ما يقرب من 50% من احتياطي الذهب بالبلاد، يليها منطقة زرا، وعدي نفاس. كما تحتوي إريتريا على 25 مليون أوقية من احتياطي الفضة، وثلاث ملايين رطلا من احتياطي الزنك، إلى جانب مليار ونصف طن من احتياطي النحاس، وذلك بالإضافة إلى معادن أخرى كالبوتاسيوم والملح. ولا تتوقف الثروات الطبيعية في إريتريا عند هذه المعادن، بل يضاف إليها البترول والغاز الطبيعي اللذين تم اكتشافهما في السنوات الأخيرة من خلال الأبحاث الإستكشافية الأجنبية.
ولاشك أن هذه الثروات الطبيعية تعد كنوزا اقتصادية تؤهل الاقتصاد الإريتري ليكون من أقوى اقتصادات المنطقة. ولكن على الرغم من ذلك يعاني الشعب الإريتري من فقر مدقع، ولا زالت عمليات البناء والتنمية تتم بوتيرة بطيئة لاتتناسب وحجم ما تتمتع به البلاد من تلك الثروات. الأمر الذي يثير تساؤلا ملحا حول أهمية النشاط التعديني في دعم الاقتصاد الإريتري، والسبب الكامن وراء ضعف تأثيره ومحدودية استفادة الشعب من ثرواته الطبيعية!!
لقد شهدت إريتريا فترات كبيرة من الإزدهار الإقتصادي والنهضة الصناعية والزراعية في العصور السابقة وذلك في نهايات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت مركزا تجاريا وكانت صادراتها تجوب أوروبا. وبعد هزيمة إيطاليا عام 1941 وإحلال بريطانيا محلها في السيطرة على موارد إريتريا تراجع الاقتصاد الإريتري بعدما حولته بريطانيا لخدمة قدراتها الحربية. ولم تكتف بريطانيا بذلك بل عمدت إلى استنزاف خاماتها الطبيعية، وتفكيك مصانعها المنتجة، لإغراق البلاد في أزمة اقتصادية. وبعد دمج الاقتصاد الإريتري في الاقتصاد الإثيوبي خلال الفترة من عام (1962-1991)، أصبح تابعا للاقتصاد الإثيوبي بكل مشتملاته بما فيها موارده الطبيعية وثرواته المعدنية. ولكنه عاد ليحقق نموا سريعا وصل إلى نسبة 7.9% بحسب تقرير البنك الدولي عام 1997 وكان من الممكن أن تستمر مسيرة التنمية والنهوض في إريتريا لولا انخراطها في حرب دامية مع جارتها إثيوبيا بعد إعلانها استقلالها عنها. وقد أدت هذه الحرب إلى تراجع الاقتصاد الإريتري بشكل خطير نتيجة توقف النشاط الاقتصادي وتراجع إجمالي الدخل القومي ليصبح بالسالب حيث وصل إلى %-8 عام 2000.
وقد لعبت الصراعات السياسية بين إريتريا وجيرانها وخاصة حربها مع إثيوبيا، دورا سلبيا في استنزاف الاقتصاد وموارد الدولة وتآكل ما تحقق من نتائج إيجابية في فترات الانتعاش، وتردت الأوضاع الاقتصادية مع تطبيق الحظر الدولي عليها، إلى الدرجة التي عجزت فيها الدولة عن توفير المواد الأساسية كالأدوية، وتوفير التمويل اللازم لقطاعات التعليم والصحة والبنية الأساسية. كما تسببت الصراعات الدولية في بعض الفترات في حرمانها من الإستفادة من ثرواتها، وهو ما حدث خلال فترة الحرب الباردة بين ما كان يسمى بالمعسكر الشرقي والمعسكر الغربي في العالم. حيث حالت تلك الأجواء السياسية المشحونة دون استطاعة شركات تعدين أمريكية وكذلك شركات سوفييتية البحث عن البوتاس في “بده” التي تعد من أغنى مناطق العالم باحتياطات هذا العنصر، مما حرم إريتريا من الاستفادة بهذا المورد الاقتصادي الهام.
ومع ذلك، كان قطاع التعدين خلال تلك الفترات الصعبة وسيلة الإنقاذ السريعة والمتاحة لإمداد الخزينة العامة بالمال المطلوب لتسيير أمور الحياة، كان الإتفاق مع شركات تعدين عالمية لاستخراج كنوزها من باطن الأرض بالمشاركة مع شركة التعدين الوطنية.
فمنذ عام 1995 أبرمت الحكومة الإريترية العديد من الصفقات مع شركات تنقيب عالمية لاستغلال مناجم المعادن واستخراج ثرواتها، منها شركة نيفسون الكندية والعاملة في مجال استخراج الذهب بالشراكة مع المؤسسة الوطنية الإريترية للتعدين، شركة سارنيج الكندية أيضا وهي تعمل في مناجم أسمرا للبحث عن الذهب والفضة والنحاس والزنك. كما اتفقت الحكومة الاريترية مع مجموعة سافكو الصينية للتنقيب عن الذهب في مشروع زرا، ومع شركة مناجم جنوب بولدر الأسترالية للبحث عن البوتاسيوم. ووصل عدد الشركات العاملة في مجال التنقيب عن المعادن بإريتريا إلى 25 شركة حتى نهاية 2015. وبسبب هذه الاستثمارات الأجنبية شهد الاقتصاد الإريتري تحسنا بسيطا ما بين عامي “2011-2015، بينما ظل التضخم مرتفعا نتيجة انخفاض الإنتاج الزراعي. وعلى مدار العامين التاليين كان مستوى نمو إجمالي الناتج المحلي كبيرا متوسطا.
وعلى الرغم من النتائج التي يفترض تحقيقها من هذه الاكتشافات التعدينية، وما تضخه من مدخلات مالية للخزينة العامة، إلا أنه للأسف لم يطرأ أي تحسن على مستوى معيشة المواطنين ولازال الفقر يطاردهم مع استمرار تردي حالة الخدمات الأساسية حيث تعد اريتريا من أفقر دول العالم وفق تصنيف البنك الدولي، الذي يقدر متوسط حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي بنجو 430 دولارا سنويا. وهو أمر يرجعه المراقبون إلى أسباب سياسية متعلقة بالظروف الصعبة المحيطة بإريتريا وعدم التمكن من الاستغلال الأمثل للموارد مع إنفاق جزء كبير من عوائد التعدين على التسليح بسبب ظروف الحرب التي كانت مشتعلة مع إثيوبيا.
بعد توقيع اتفاق السلام مع إثيوبيا وإسدال الستار على حرب طويلة بين الجارتين الإفريقيتين، ورفع الحظر عن إريتريا يتوقع أن تتم إدارة الثروات المحلية بشكل أفضل والإنفاق من عوائدها على تطوير مجالات الاقتصاد الأخرى بما يعود بالنفع على الشعب الإريتري. وتزداد احتمالات النهضة الإريترية على يد قطاع التعدين من خلال ربطه بقطاع الصناعة خاصة مع زيادة الإقبال الدولي على الاستثمار في مناجم إريتريا بعد رفع الحظرعنها.
ويبدو المستقبل الإقتصادي في إريتريا زاهرا في ظل ما يمتلكه من ثروات تعدينية كبيرة لا زالت مدفونة تحت الأرض، حيث يكون التعدين بمثابة قاطرة لدفع الاقتصاد الإريتري نحو النمو. وقد أثنى رؤساء شركات تعدين عالمية على اتفاق السلام الإريتري الإثيوبي على أمل أن يفتح ذلك المجال لآفاق أرحب من الاستثمارات وعمليات التنقيب عن المعادن المهمة بما يسهم في زيادة موارد الدولة المالية. ويأمل خبراء التنقيب عن المعادن في أن تسهم قرارات رفع العقوبات عن إريتريا في دفع حركة التعدين، بعد تأثرها السلبي بإحجام المستثمرين عنها في فترات سابقة لأسباب سياسية. كما يتوقعون أن تشهد إريتريا استثمارات مستقبلية متزايدة في قطاع التعدين بالنظر إلى الطبيعة الجيولوجية للبلاد وزيادة احتمالات ثراء أراضيها بالذهب والنحاس.
تبقى إشكالية مهمة تنتظر تسويتها من قبل الحكومة الإريترية، وهي تتعلق بنظام جلب العمالة إلى هذه المناجم وما يشوبه من شوائب تتسبب في تعريض العمالة للمخاطر من دون أطر قانونية وصحية لحمايتهم في هذه المجالات الخطرة. وهو أمر يحتاج لتعاون كل من الحكومة والشركات العاملة في هذا المجال حتى لا تتعرض لانتقادات دولية قد تهدد هذه الاستثمارات بالتوقف أو العرقلة. وكي تكتمل الصورة المشرقة لتعظيم الاستفادة من قطاع التعدين، لا بد وأن تستخدم عوائد هذا القطاع الثري في تطوير باقي قطاعات الاقتصاد الإريتري، وهو ما أكدت عليه الحكومة الإريترية حيث تعهدت بتطوير قطاعات الزراعة والسياحة والصيد من خلال عوائد قطاع التعدين.