لقراءة التقرير أو تنزيله بصيغة بي دي اف انقر هنا
التقرير الأسبوعي
الرقم 50

ملخص:
جاء اختيــــــــــار الباحث للدراســــــة في مسألة “السلفية في جيبـــــوتي: الواقــع وآفاق المستقبل” كنتاج لجملة من الاعتبــــارات والعوامل، تمثلت في مجملها أهمية هذه الأطروحة على المستوى الفكـــــري والسياسي والاجتماعي، فقد كان لتنامي الفكـــــــــري السلفي دور العامــــــــل الأول، فيما كان لانعكاســـات هذه التنامي على الحالة الجيبــــوتية دور العامل الثاني،
كما أن المتغيــرات الهائلة التي تمـــر بها العـــــــــلاقات السلفيـة مع القـــــــوى السياسية والفكرية الوطنية ومكونات المجتمع الجيبـــوتي بشكل عام، فضـــلاً عن حالة الاهتــــزاز والغليـان المستمر للبنية الداخلية السلفية، كانت كلها عـــــوامل موضوعية، قد دفعت الباحث لمحاولة الوقوف على تفاصيـل الواقع السلفية الجيبــــــــوتية واستشراف مستقبلها ومآلاتها.
أهـــــــــداف الدراسة:
واحد من أهم الأهـــــداف التي تسعى هذه الدراسة إلى تحقيقها، يتمثـــــل في دراســــــة الحالـة السلفية في جيبـــــوتي، والإمساك بمجمل العناصر والعوامل التي ساهمت في بـــروز الواقــــــــع السلفي الراهن ، من أجل الوصول إلى رؤية عامة للمُرتكزات والمُحددات المنهجية للفكر السلفي المُتغيـر، وبالتالي فهم طبيعة بنيتها الداخلية وعلاقات التفاعلية وكذلك العوامل والمؤثـــــــرات على تطور السلفية ومآلاتها المستقبلية بصفة عامـة، مع أخذ الاعتبـــــــار للظروف السياسية الجديدة والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.
كما تهدف الدراسة إلى إثــــــراء البحث العلمي فيما يتعلق بدراســة الحركات الإســــــلامية المعاصــرة، لا سيما وأن مسألة الحركات الإســـــــلامية في منطقة القرن الإفريقي وجيبـــــوتي بصفة خاصة، لا زالت تحتاج إلى دراسات معمقـة، على عكس نظيرتها في العالم العربي والإســــــلامي التي نالت حظـــــــاً وفراً من الاهتمـــام والبحث.
إشكالية الدراسة:
في محاولـــة للوصــــــــــول إلى هـذه الأهـــــداف المذكورة أعلاه، انطلق الباحـــــــث في صياغة إشكاليـة الدراســـــة، وتتمحور حول بحث وتحليـــــل الأوضاع السلفية بجيبــــــوتي والسيناريوهات المستقبلية المحتملة، وذلك من خلال تحديد وطـــــرح الإشكاليـة التاليـــــة:
1. ما أهم العوامل المؤثـــرة في مســــارات الدعــــــوة السلفية في جيبــــــوتي؟ وتطور بيئتها الداخلية وعلاقات التفاعلية وارتباطاتها الداخلية والخارجيـة بصفة عامة؟؟
ولمحاولة الإجابة عن هـــــــــذه الإشكالية، لا بد لنا من صياغة وطرح جملـــــــة من الأسئلة الفرعيــة المساعدة، تتمثــــل في الآتي:
1) ما هي السلفية المعاصرة؟ وما مفهومها ودلالاتهـــــــا؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء الجـــــــدل والخــــــلاف الدائــر حول استخدام هذا المصطلح للدلالة على بعض الحركات الإســـــــلامية المعاصـــرة؟
2) كيف نشــــــأت وتطــــــورت الدعـوة السلفية في منطقة القرن الإفريقي وجيبـــــــوتي بصفة خاصة؟ وما هي مرتكزاتها الفكرية ومحدداتها المنهجيـة؟
3) ما هي الخصائص والمميزات السلفية الجيبــــــــوتية؟ وما أهم العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في بيئتها الداخلية وعلاقاتها التفاعلية على كافة المستويات والأصعدة؟
4) ما طبيعة دور السلفية الجيبوتية في الساحة المحلية؟ وإلى أي مــــــدى يمكن لارتباطاتها الخارجيــــة أن تؤثــــر على توجهاتها الفكرية والسياسية في هذه التفاعلات؟
5) وما هي التحديات التي تواجهها السلفية الجيبوتية؟ وما تداعياتها وتأثيرها المحتملة على مجمل تطورات الأوضاع السلفية ومآلاتها المستقبلية؟ وقدرتها على التكيُف مع الظروف والُمتغيرات السياسية والاجتماعية والأمنية الراهنة؟؟
فرضيات الدراسة:
من أجل التفكيك والإجابـة عن الإشكاليـة محـــــل الدراسة، انطلق الباحث في فحص فرضيـــــاته التي يمكن إيجازها في الآتي:
1. ثمــــة عوامل وأسباب موضــــــــوعية ساهمت في بــــــروز الفكر السلفي وانتشاره في المنطقة بهـــذا الشكل من أهمها: الواقع السياسي المتخلف والانحطاط الفكري العميق الذي تعاني منــــــه المنطقـــــــة وجيبوتي بصفة خاصة.
2. على عكس الشعوب والمجتمعات الأخرى في المنطقــــــة، فإن أغلب مكونات المجتمع الجيبوتي، لا تزال تجد صعوبة بالغة في تقبل الفكر السلفي السائد في المنطقـــــــة، ولهذا فإن دور التيارات السلفية وتأثيــــــراتها على المشهد الجيبوتي العام، لا يزال يتسم بالمحدودية والضعف حتى اليوم.
3. هناك العديد من التحـــــديات الداخلية والخارجية تواجهها التيارات السلفية في جيبــــــوتي والمنطقـــــــة، منها غياب التفكير المنهجي والعقـــلاني لمواجهة التحديات والظروف المتردية التي آل إليها الواقع الحضاري الإسلامي، كما أن وجودها ومستقبلها يتحدد بمدى قدرتها على صياغة خطاب فكري وسياسي أكثر عقلانية وواقعية للاتصال بالجمهـــــــور، وكذلك مدى فهمها ووعيها بالتحولات والمتغيرات الحاصلة على الساحة المحلية والإقليمية والدولية.
هيكــــل الدراسة:
فحص هذه الفرضيات تتطلب من الباحث تقسيم الأطروحة إلى أربعــــــة محاور رئيسية، بالإضافة إلى المقدمـــــة والمدخل التمهيدي والخاتمة التي تعرض النتائج والتوصيات التي خلصت إليها هذه الدراسة، وذلك وفق الخطـــــــة الآتيــــــة:
المقدمـــــــة: وتتضمن تحديد إشكالية الدراسة ومن خلالها تم توضيح أهمية هذه الدراسة وفرضياتها إلى جانب منهجيتها وأهدافها في الإطار العام.
أما المدخل التمهيـــــدي فيعالج إشكالية ضبـــــط مفهوم السلفية والمفاهيم الأخرى ذات العلاقة بموضوع الدراسة، لإزالة اللبس والغموض والتداخل بين المصطلحات، من أجل التأسيس لقاعدة نظرية تكون مدخــــــلاً للباحث في تحويله هذه المفاهيم المجردة إلى واقع إجـــــرائي من خلال ترجمتها واسقاطها على الحالة السلفية عموماً، والسلفية الجيبوتية خصوصا.
ويتطرق المطلب الأول إلى المحددات المنهجية والمرتكزات الفكرية للدعوة السلفية، وتم من خلاله ضبط وتحديد المنطلقات الفكرية والسياسية التي قامت عليها السلفية المعاصرة، لفهم سلوكها وعلاقاتها التفاعلية مع الاتجاهات الأخرى وتعاملها مع المتغيرات والظروف المتـردية التي آل إليها الواقع الحضاري الإسلامي على كافة مستوياته السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والدينية.
أما المطلب الثاني فيعالج نشـــــــأة الدعوة السلفية المعاصرة وتطورها، ومن ثم التطرق إلى خصائص ومميزات النشأة السلفية في جيبــــــــــوتي، وتفسير انتشارها في البلاد، لتحديد العوامل الداخلية والخارجية التي ساهمت إيجاباً أو سلباً في مسيرتها التاريخية، والتوقف عنـد أهم المحطات التي مرت بها، وكيف أثرت كل محطة على توجهاتها وعلاقاتها التفاعلية.
أما المطلب الثالث فيستهدف دراسة واقع السلفية في جيبوتي، وتحليل دورها وتأثيـرها على الساحة المحلية، ومن ثم يتناول تفاعلات بيئتها الداخلية بناء على محدداتها المنهجية والفكرية وهياكلها التنظيمية، علاوة على تصوراتها السياسية تجاه مجمل القضايا الوطنية والمتغيرات المحلية والخارجية التي تتم وفقاً للتحولات الجيوبولتيكية الجارية في منطقة القرن الإفريقي والعالم العربي والإسلامي بشكل عام.
بينما يتعرض المحور الرابع للسيناريوهات المتوقعــــــة لواقع السلفية في جيبـــــوتي والآفاق المستقبلية، من خلال دراسة وتحليل التحديات التي تواجهها على كافة المستويات والأصعدة، ومدى قدرتها على التكيف معها، ومن ثم معالجة تأثيـــــرات وتداعيات هذه التحديات على مستقبل الفكـــــر السلفي في البــــــلاد.
مدخل تمهيدي:
لقد شكلت السلفية المعاصــــــرة منذ نشأتها على يــــــــــد الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي التميمي، في القرن الثامن عشر الميلادي، شكلت أحد أهم محاور الجــــــدل والنقاش، ليس في الأوساط الفكرية والسياسية فحسب، وإنما حتى في أوساط فئات المجتمـــــــع المختلفة.
لكن مجمل تلك النقاشات لم تتجــــــــــاوز في إطار الانطباعات العامة، كما لم تخل من الميول الفكرية والنــــــوازع الشخصية، وهو ما أصاب “القاموس المفهـــــومي” للسلفية، بحالة من التضخـــــم واللااستقرار، لاختلاف الآراء وتعدد التعريفات التي تعرضت لهـــــذا المفهـــــوم ومحدداته ودلالاتـــــــــه.
وعليــــــه فإنه من الصعب جداً إيجــــــــاد تعريف جامع ومانــــــع لمفـــــــهوم السلفية المعاصــــــــرة، ولعـــــل ذلك عائــــــد إلى تعــــــدد الرؤى الفكرية والإيديولوجية للدارسين والمنشغلين بالمســـــــألة السلفية، علاوة على أسباب وعوامل أخرى مرتبطة بالظروف التاريخية التي نشأت فيها السلفية وارتباط جزء كبير من حاضرها بتلك الحقبة، كما أن السلفيـة ليست كيـــــــاناً واحـــــــــداً، بل تضم مجمـــــــوعة من التيـــــــارات، تعددت اتجاهاتها وأساليب عملها، وتباينت اهتماماتها وأولوياتها، مما زاد الأمــــــر تعقيــــداً.
ونظــــــــراً لتلك التعقيدات، سيحاول هذا البحـــــث – قبــــــل الولوج في صلـــب موضــــــوع الدراســـــة – معالجة إشكالية ضبـط مفهوم السلفية بشكل موضوعي، لأن رؤيـــــة المفاهيــــــــم تُعــــــــــد مسألة في غاية الأهميــــــــة، حيث تمكننا من إزالـــــــــة الالتبــــاس والغموض، وإعطــــــاء الوصف التعريفي السليم للدعوة السلفية، ومن ثم تحــــــــديد الملامـــــــــــح الفكـــــــــرية والفـــــــــروق السياسيـــة بيــــن تيــــــــاراتها المختلفة، وهذا ما سنعمل على توضيحه في السطور القادمة:
أولاً: السلفية: المفهوم والتوظيف:
I. السلف لغــــــة:
أصــــل كلمة “السلف” بمعناها اللغوي: تعني ما مضى وانقضى، وسلف الرجــــــل: أي آباؤه المتقدمون، فقــــــد عرف ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة): كلمة سلف: بأنها أصــل يدل على تقدم وسبق، ومن ذلك السلف الذين مضـــــوا.
وعرف الراغب الاصفهاني في كتابه “المفردات” السلف: المتقدم، ومنــه قول الله تعالي: “فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفَاً وَمَثَــــــلَاً لِلْآخرِيْنَ”( )أي معتبراً متقدماً، ولفـــلان سلف كريم: أي آباء متقدمون، وجمعه: أسلاف وسلوف.
وقــــــال ابن منظــــــــور في “لســـان العرب” السلف: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السبق والفضـــــل، ولهـــــذا سمي الصدر الأول من التابعيين “السلف الصالح” ومنه قـول النبي(صلى الله عليه وسلم) لابنته فاطمـــــة: فإنه نعم السلف وأنا لك” أخرجه مسلم .
II. السلف اصطلاحاً:
يقصـــــــد بالسلف بصورة عامة في اصطـــــلاح أهل العلـــــــم، لا سيمـــا أهل الحــــديث، للدلالــــة على منهج الصحابة ومن تبعهم بإحسان، كما جاء في قوله تعالى: (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)، وقـــــــد تناول الكثيـر من العلماء – منــــــذ القدم- لهـــــذا المصطلح، بصــدد الحديث عن الصحابة والتابعين وتابعيهم.
وبهــــــــــذا المعنى قال الإمام البخــــــــاري: قال راشـــد بن سعد: “كان السلف يستحبون الفحولة، لأنها أجرى وأجسر” وعلق الحافظ ابن حجـــــــر في كتابـه “فتـــح الباري” (66/6) قائلاً: أي الصحابة ومن بعدهم”.
ثٌــــم تقرر هــــذا المصطلح عند معظم أهل العلم بمن فيهم علماء الكـــــلام، وقال الإمام الغزالي معرفاً كلمة السلف: أعني “مذهب الصحابة والتابعين” وبالتالي فإن مصطلح “السلف الصالح” هو تعبيــــر يراد به المسلمون الأوائل من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين عاشـــــوا في القرون الثـــــــلاثة الأولى من عمـــر الإســــــلام، وهم الذين شهد لهم النبي(صلى الله عليه وسلم)بالخيـــرية في قولــــه: (خيـــر الناس قرني، ثُم الذين يلونهم، ثٌم الذين يلونهم) .
وعليه فإن مفهــــــوم ودلالة هــــــــذه الكلمة بمعناها الاصطــــــــــلاحي المستقِرُ، يقصد بها القــــرون الثـــــلاثة الأولى من عمـر هذه الأمة الإســــــلامية، التي شهــــد لها الرســـــول (صلى الله عليه وسلم) بالخيرية، وهــــــذا محـــــل إجمـــــــاع وتوافق عند الجمهـــــــــور، ولكن اختلفت آراء أهـــــــل العلم في المراد بالخيـرية في حق هذه القرون الثــــلاثة.
وفيما ذهب الجمهور، إلى أن الخيرية ثابتة لأفراد هذه القرون الثـــــــــلاثة جميعاً، بغض النظر عن اختلاف درجاتهم وتفاوتهم في الصــــلاح والاستقامة.
يرى عدد من العلماء في مقدمتهم الشيخ ابن عبد البــــر، إلى أن الخيرية ثابتــــة لمجموع المسلمين في تلك العصـور الثلاثة، أما الأفــــراد فقد لا تنطبق الخيـرية على بعض منهم، بل قد يأتي فيمن بعدهم من هو أفضل بهم .
III. السلف زماناَ:
من خلال تلك التعريفات السابقة، نـــــــلاحظ أن كلمة (السلف) إذا أريــــد بمعناها اللغوي فقط، لا تعني التقدم والسبق، الذي هو معنى نسبي يمكن أن تتعاره الأزمنة المتوالية كلها، ككلمة (قبل) سـواء بسواء، لأن كل زمن من الأزمان سالف إلى الأزمنة في أعقابه وخلفُ بالنسبة إلى الأزمنة التي سبقته ومرت قبلـــــه.
غير أن هذه الكلمة قد اكتسبت معنى اصطلاحيـاً ثابتاً غير هذا، لا تتجاوزه ولا تنتقل منه إلى سواه، وكما قد سبقت الإشـــارة أعلاه، فإن الكلمة تستعمـل في الدلالـة على هذا المعنى الاصطلاحي، بصدد الحديث عن أفضل العصور الإسلامية وأولاها بالاقتـــــداء والاتبـــــاع.
IV. السلفية منهجاً ومذهباً:
السلفية تعني بمعناها اللغـوي، الانتسـاب إلى السلف الصالح، وهي من أكثر المفاهيم الفكرية والسياسية إثارة للجـدل والخـــــــلاف، حيث اختلف العلماء والمفكرون في مسألة الانتسـاب للسلف، ما بين مؤيـد لها يعتبرها نسبة محمودة لمنهج معصوم يجب الجميع اتباعه، وبين رافض يرى أن السلفية لا تعنى سـوى مرحلة زمنية مرت، قصارى ما في الأمر أن الرســــول وصفها بالخيريـة، وأن الادعاء وانتحال الانتساب للسلف الصالح، ليست إلا إحدى البدع المستحدثة بعد الرسول.