تذكرة سفر بلا عودة
الصومال الجديد
آخر تحديث: 17/05/2018
بقلم لؤي شبانه مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية
قد يكون الملف الصومالي، كما يسميه المراقبون السياسيون من أصعب الملفات معالجة من الناحية التنموية والإنسانية على الإطلاق، وذلك بسبب تعقيدات الوضع السياسي منذ إنشاء دولة الصومال عام 1960، وما تلا ذلك من سياسة افتقدت معظم معايير الحكم العادل في فترة رئاسة سياد بري منذ عام 1961 وحتى الانقلاب الذي أطاح به في 1991، ثم خلال التخبط والفوضى والحروب التي تركت آثارًا مؤلمة على البلد ومن ولم يفر منها.
وكشخص يعمل في مجالي التنمية والمساعدات الإنسانية منذ قرابة الثلاثين عامًا، كثيرًا ما ألتقي بصوماليين ممن يعيشون في الخارج وألحظ ارتباطهم ببلدهم برغم البعد، ودأبهم على مساندة أهلهم ممن بقوا في الصومال بشتى الطرق.
ثم أزور الصومال كما فعلت الأسبوع الماضي، وأدرك حاجة البلد المستمرة للمساندة الدولية في مجالات متعددة، أخص بالذكر منها مجال الصحة الإنجابية، فهو محض اهتمام صندوق الأمم المتحدة للسكان الذي أعمل به، لا سيما وأن الموت يهدد امرأة حامل واحدة من بين كل 22 وفقًا لأحدث التقديرات، وهو خطر يكاد يكون غير موجود في عديد الدول حتى تلك التي تعاني من الأزمات.
في اليوم العالمي للقابلة الأسبوع الماضي، حضرت حفل تخرج 124 قابلة قانونية درسن في 4 كليات طبية بإشراف وزارة الصحة كجزء من إجراءات السلطات الصومالية لتقليل معدل وفيات الأمهات، إذ توفر القابلات رعاية الصحة الإنجابية بما فيها الولادة، ويقدمن الدعم والمشورة للنساء، لا سيما عندما تتوقف معظم الهياكل الصحية عن العمل، كما هو الحال في مناطق متعددة في الصومال.
اجتمعت في احتفال التخرج متناقضات التنمية الدولية كما يراها المخضرمون من خبراء التعاون الدولي، ومن يعيشون بين عالم المانحين من الدول المتقدمة، وعالم المتلقين للعون من الدول التي ما زالت طور التقدم والتنمية.
ففي صالة الاحتفال التي تخرجت فيها القابلات، جلست سفيرة فنلندا كممثلة لدولة مانحة للمساعدات بجانب وزيرة الصحة الصومالية، وجلست أنا كممثل عن الوكالة الأممية المعنية بالصحة الإنجابية بين امرأتين قويتين تعملان معًا حتى يصبح لدى الصومال عدد من القابلات يكفي لتغطية احتياجات النساء وإنقاذ أرواحهن.
أظهر خطاب الوزيرة الصومالية والسفيرة الأوروبية إيمانهما بأحقية كل امرأة في حمل وولادة آمنين، وهما سيدتان متكافئتان في تحصيلهما العلمي المتقدم، وفي المكانة التي احتلتاها في بلديهما، مع اختلاف كبير في أهلية المجتمع من حولهما لدعم المرأة.
في الصومال تموت النساء الحوامل حين يصلن إلى المستشفيات بعد فوات الأوان، وينشغل المجتمع عنهن بالحروب والنزاعات والتنافس السياسي على كرسي الحاكم.
سألت بعض الخبراء في الصومال عن تقديرات نسبة الزواج المبكر فقيل لي أنها غير معروفة، فالناس لا تعرف أعمارها بالضبط بسبب عدم حيازة الكثيرين على أوراق ثبوتية.
وسألت عن معدل الأعمار فقيل لي لم يتم قياسه بشكل دقيق لكن قليلا ما ترى كهلًا أو شخصًا كبيرًا في السن مما يدعو للاعتقاد بأن الصوماليين يموتون في سن مبكرة.
أنا أجلس إذن أثناء احتفال تخرج القابلات بين امرأتين آتيتن من مجتمعين أحدهما منح كل الحقوق لبناته ونسائه؛ فعشن حياة كريمة، وتمتعن برحلة الحمل والولادة، ومجتمع آخر لم يوفر أبسط شروط البقاء على قيد الحياة، وهو شرط الحفاظ على الأم والجنين، وعدم التفريط بأي منهما؛ بسبب عدم توافر الخدمات الطبية المناسبة.
وهنا تأتي أهمية التنمية الدولية لجسر الفجوة الكبيرة ما بين ما نتداوله في مؤسسات التنمية الدولية وبين ما تعيشه نساء في بلد مثل الصومال وغيره من البلاد التي لم تركز على صحة المرأة بشكل كاف.
يتمتع كثير من صوماليي الشتات بالمستوى العلمي والمهني والخبرات الدولية التي اكتسبوها من بلاد عاشوا فاطلعوا على أحدث أساليب البحث العلمي والمعرفة الفنية والتقنية والحوكمة الرشيدة، وهو ما يزرع في النفس نظرة تفاؤل كبيرة وأمل واعد بالنسبة لدور صوماليي الشتات العائدين إلى بلادهم والذين ضحوا بحياة فيها الكثير من الرفاهية للعودة إلى وطن إمكاناته متواضعة وأملهم فيه كبير.
في هذا البلد الفقير تجربة غنية وعملية تبين أهمية الحراك السكاني عبر القارات والبلدان، وما يمكن أن تجنيه الدول إذا ما استطاعت أن تربط الشتات بالوطن.
زيارتي للصومال كانت سياسية تنموية في طابعها، تسعى إلى تعزيز الشراكة بين المجتمع الدولي وحكومة الصومال لصالح تحسين حياة نساء الصومال عموما، وفي مجال الصحة الإنجابية بوجه خاص، إلا أن زياراتي الميدانية لعدد من المستشفيات والمراكز الصحية في مقديشو وجروة وهرجيسة حركت إنسانيتي وزادتني تصميمًا على ضمان تمتع جميع النساء بحقوقهن الإنجابية، وجوهرية إشراك الصوماليين والصوماليات خصوصًا ممن عاشوا في بلاد تمنح النساء حقوقًا كاملة، في عملية تغيير مجتمعي وثقافي يحافظ على كرامة وصحة المرأة في كل مراحل عمرها؛ بحيث يصبح احتمال تعرضها للعنف المبني على النوع الاجتماعي؛ بما في ذلك الزواج المبكر وزواج الطفلات والختان، واحتمال موتها أثناء الحمل والولادة غير وارد، وبذلك لن تشتري نساء الصومال تذاكر بلا عودة، بل سوف يبقين معززات مكرمات في مجتمعاتهن.
المصدر: بوابة الأهرام