مفترق الموت!
الصومال الجديد
آخر تحديث: 1/08/2015
بقلم: ألأستاذ عبد العزيز محمد شدنى / كاتب وناقد صومالي
كنت أدلف في الشّارع الممتدّ ما بين مسجد حَريد والتقاطع ألمسمّى بَار أُبح في مقديشو متثاقلا، وكانت شمش الظّهيرة ضربت خيامها عليّ، تلا حقني من كل حدب وصوب، وكنت أتضوّع جوعا، فحاولت أن أبحث لقمة عيش لسدّ موجة الجوع الذي كان يبتزّ بأحشاء معدّتي، فدخلت مطعما كان مكتظّا بالزّبائن ظناّ بأنه مطعما يجهّز أطعمة ووجبات عاليّة الجودة، فكما كانت العادة السائدة في المحيط الاجتماعيّ قمت بغسل يديّ بصابون يستخدمها الجميع للنظافة فبل الأكل وبعد الأكل، فقعدت متلهّفا بالأكل ألشهيّ.
فعندما حضر لي الجرسون وجبة الطعام، بدأت التهم ذالك الرّغيف مع حساء مخلوط بالغدد والأوردة، فعلا أكلت إلى حد التخمة، وبدأت المعدّة تتصارع بما فيها من الأضداد، دفعت ثمن الوجبة؛ وطلعت من المطعم باحثا باشتنشاق الهواء الطلق، وفي يدي اليسرى عود أتخلّل به لإزالة بقايا الطعام من أسناني.
فبينما ومضات الهشّة والبشّة تظهر من ملامح وجهي، وكنت في منتصف شارع بَارأُبح، بصدفة تعرضت بطلقات ناريّة وقعقة الرّصاص، فانبطحت على الأرض ولم أعد أتمرّغ بها كأنني أداعب مع ملك الموت، ياللمفاجأة!!. تحوّل الجوّ المرِيح إلى كآبة ومناخ تشوبه صيحات النّسوان وآهات المصابين وعويل كلاب السّوق، بالفغل قامت الدنيا ولم تقعد في تلك الظهيرة، وأشعة الشمس تلفح وجهي، والعرق يقطر من جبيني ومن إبطي كقطرات المطر الغزير، في تلك اللحظة الخانقة كلّ من هبّ ودبّ اختفى حاميا نفسه من شبح ذالك الموت المحدّق، والمليشيات المأجورة من قبل أحد لوردات الحرب بدأت تقتل الجميع بدون أيّ تمييزلمن هو المستهدف ومن هو البريء.
فبينما أنا بين الكرّ والفرّ والرّصاص الطائش تدقّ مسامعي وجدت زقاّ فتسلّلت فيه هاربا من جحيم الموت، متنا سيا بأن الموت يستطيع أن يلاحقني في أيّ مكان وزمان. فبعد وصولى إلى سوق بَكارى، جلست جنب الرّصيف طالبا من أحد المارّة جرعة ماء لسدّ الرّمق، فتجرّعت الماء جرعة تلو جرعة, فعقب تلك الجرعات المتسارعة حاولت الاتّصال بالأسرة للعثور على آخر التّطورات الميدانية في تقاطع بارأُبح، ولكن للأسف الشديد ضاع الهاتف، وكان من الطّراز القديم، هاجت أعصابي بسبب هذه الورطة، فبعد برهة وجيزة استمعت النشرة الإخبارية التي بثتها إحدى الإذاعات المحلية المملوكة من قبل رجل أعمال قبلي، والعاصمة بقضّها وقضيضها كانت أنذاك تحت هيمنة قوى القبائل المتحالفة بالشرّ والخيروالمتناطحة في كل شاردة وواردة، ملخص تلك النشرة الإذاعيّة كان يوحي بأنّ أحد مصّاصي الدّماء شن ّهجمة لاذعة على تقاطع بَارأُبح لأخذ الّثأر. بالذّات كانت هجمة بربرية وغوغائية بكل مالهذه الكلمة من معنى. فبعد ذالك اليوم الكئيب تغيرت حياتي، وأصبحت لأ أخاف من شبح الموت المطلّ علينا من زاوية من زوايا الحياة.
من المذهل أنّ هذه الحادثة الحالقة تركت بصماتها الواضحة على نفسي، وجعلتني أعاني من الصدمة النفسية والخوف الذي يلاحقني كالظّل، فدوما عندما أكتحل برؤية شاب مغرور مدجج بالبندقية كنت أتخيّل بأن لديه الضّوء ألأخضرلقتلي، وبسبب الحادثة الرهيبة كنت أعيش في عالم مليء بالاضطراب النّفسي والفوبيا، مما أثّر تأثيرا سلبيّاّ على سلوكي ألاجتماعيّ، أدهى وأمرّ من ذالك أنني لم أَرِو هذه الحادثة لوالديّ، لأنّني على علم بأن علاقتي معهما كانت مبنية على المدّ والجزر، كما هو الحال لدى السّوادالأعظم من أبناء جلدتي وأقراني، لذلك كنت أنظر ألأمور بمنظار قاتم بسبب ذلك الإحباط ألذي اجتاح نفسي، مماجعلني أجهش بالبكاء في كل مرّة استمع أخبار الموت والاشتباكات.
ياألله!! كانت الإذاعات المحلية بمثابة بوق من أبواق الموت والإرهاب، لأنها كانت تبث خبرالموت والكراهيّة بدون أدنى مسؤولية واعية.
في نهاية المطاف، وبعد معاناة قاسية جدّا بدأت أتكّيف بذاك الجو الشيطانيّ المفعم بقوى الشرّ، بعد أن سأمت الخروج من هذا المأزق، وأوصلني الحال إلى طريق مسدود، فكنت أتخبّط خبط ناقة عشواء في استيعاب الأشياء والحوادث، فكل تارة أسمع أخبار الموت كانت تنتابني الضحكة، ويالها من ضحكة فارغة!! فمضمون تلك الضحكة كان الهوس النّفسي المخيّم على القاصي والداني من المجتمع الصّومالي الغارق في بحار الكراهيّة والأنانيّة، وممّا يغضّ مضاجعي إلى يومنا هذا أن مقديشوا [منبع حياتي ومنبت طفولتي] لاتزال تحت رحمة كلاب جهنم المتقمّصين برداء الإسلام، ممّا أدّى ألى أن تكون مقديشوا وصمة عار يندى لها الجبين.
أخيرا، يمكني أن أقول بكل حزم وجزم أنّ الدروس التي اقتبست من تلك الحاددثة هي أنه أحيانا يتحتّم علينا اللّعبة مع الخطرالقائم، لعلّنا نحصل السّعادة من حيث لا سعادة يُذكر، وأن نكون غرباء الأطوار، ونشقّ عصا هذه الطاعة العمياء، وكسر حواجز الخوف، وأن نمشي عكس اتّجاه الرّكب، لعلّنا نجد ذوقا لا مثيل له في الحياة، فالمشي مع القافلة دائما يورث الخمولة والغباوة، وذلك لايأتي إلّابخرق التّصميم الاجتماعيّ المبنيّ على التّرهات، بدلامن الّتبطيل والتّصفيق لإراقة الدّم بإسم القبيلة تارة وبسم الله تارة.