هكذا مات صديقي
الصومال الجديد
آخر تحديث: 5/07/2015
بقلم الاستاذ عبد العزيز محمد شدنى / كاتب وناقد صومالي
فتاح كان رقيق دربي، ترعرعنا معا في حيّ من أحياء مقديشوا-عاصمة الخوف والرّعب آنذاك. كنّا نلعب ونلهو في أزقّة حيّنا المأهول عشوائيّا. صديقي فِتاح حفظ القرآن على ظهر القلب. بدون أدنى فهم لمحتواه الدّقيق وأسراره الرّفيعة. لم يلتحق بالمداس الأهليّة ألتي تديرها المؤسسات الدينية المتصارعة على حطام الفكر الديني الضئيل ظاهرا وباطنا، لأنه كان ينتمي لعائلة تفترش الغبراء وتلتحف الخضراء، بيد أنّه درس اللغة العربية، ياليته لم يدرس!! فبدأ يقرأ الكتب الفكريّة التي تحمل في طيّاتها السّم المخلوط في الدّسم، ينهل من منابعها المريرة أو العذبة حسب الذّوق.
فذات يوم أخذنا العزم بأن نشتري كتابا صغير الحجم ولكنه كان عظيم المضمون، كان عنوان ذالك الكتاب ” قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله”، فوجدنا ذلك الكتاب بثمن زهيد، يعادل عشر ألف شلن صومالي، فصديقي بدأ يتصفّح ويقرأ هذا الكتاب بتمعّن وبعاطفة لامثيل لها، فبعد أسابيع قليلة، ها هو صديقي يجهش بالبكاء، وعيناه تترقرق بالدّموع الغزيرة لهول ما قرأه في صفحات هذا الكتيب المشئوم، تغّيرت حياة صديقي، وأصبح غريب الأطوار، إنطوائيا، ومنعزلا عن مصاحبة الأصدقاء، ورافضا مشاهدة ألعاب كرة القدم ومشاهدة الأفلام الهندية ومغازلة الحسناوات. عفا اللّحية وقصّر الثياب، وكذالك انعزل عن الناس، فبدأت أتفقّد أحواله محاولا طمأنة قلبه الهائج ونفسه الثائرة، كنت أقرأ من تجاعيد وجهه الغضب العارم حول ما آل إليه الأمر بالمسلمين، من النّكبات والكوارث، فبدلامن أن يكفّ عن قراءة الكتب الفكريّة ألتي غسلت دماغه إلى حدّ الصفر، واصل قراءة كتب ورسائل إبن تيمية وتلميذه إبن القيم الجوزية، مما زاد للطّين بلّة.
أما أنا فكصديق كنت أبذل قصارى جهدي دائما ودوما لإزاحته عن هذا الدّرب المحفوف بالمخاطر والشّوائب، غيرأنه أمضى قدما إلى أن بلغ درجة قصوى، لا أمل فيها ولا رجوع عنها. أمّ فِتاح كانت قلقة جدا لما يحدث لابنها الوحيد، من الإنفعال والتوتّر النّفسي الذي يعيش به، لأنه ابتعد عن العائلة، والتحق بمعسكرات التّدريب لصالح جماعة إسلامية سريّة كانت تنظم الدورات لتشجيع الشبيبة للانخراط في سبيل المقاومة والجهاد، كما قيل وحسب ما كان شائعا في ذاك الوقت الرّهيب. انقطعت أواصر الصداقة بيني وبينه، لأنه يعيش في واد وأنا في واد آخر، أوبعبارة أخرى، صديقي تمرّد، وشقّ عصا طاعة المجتمع، فسلك منعطفا خطيرا، حيث أنني كنت منسجما مع المحيط الاجتماعي قلبا وقالبا، هلكا أو ملكا، وهكذا تفرق الأصدقاء، وياله من فراق مؤلم!! فراق الأيديولوجيات والمفاهيم هو أنكي فراق يحدث بين الرفقاء.
فبعد تدريبات عسكريّة وتمرين جسدي، صديقي فِتاح أصبح صعب المراس وقويّ الشوكة، وقنّاصا محترفا لصالح جماعة راديكالية كانت متمركزة في مقديشوا. فخلال عملية إغتيال كان ينفذها هو وزبانيته أصيب بجروح خطيرة للغاية، وعند ما سمعت ذاك الخبر المصعق، لم أتمالك من البكاء، بدأت أكيل اللعنة تلو اللعنة لجميع تلك الكتب التي جعلت حياة رفيقي وأنيسي في الطفولة كريشة في مهب الرياح، اتصلت بأمه لأتعرف كيف الجو عندها، فها هي تلطم خدها، وتصرخ قائلة “ويلي، يا ويلي” أغلقت الهاتف بسرعة، وأخذت تاكسي للوصول الى مستشفى بنادر، كانت السيارة تسير بسرعة فائقة، فعند ما وصلت قاعة المستشفى هبت عليّ روائح كريهة، وأذِبَّة تهاجمك من كل زاوية من زوايا الغرف، لأن النظافة كانت متدنية جدا، دخلت الغرفة التي كان فيها صديقي، فوجدته يئنّ ويتململ على الفراش جنبا إلى جنب لشدة الألم والجرح العفن، فالدماء والصديد والقيح كانت متناثرة على السرير. يا للدنيا!! دقّات قلبي تذكّرني تلك الأيام واللّيالي الجميلة التي قضيناها معا، ولكن ممّا زاد لوضعه الصحيّ تعقيدا، أنه لا يبدو في الأفق بريق أمل لتعافيه، فالطّبيب قال لي ذالك بصراحة. با إلهي!! صديقي على حافّة الموت، وملك الموت يطرق بابه، أراه طريحا على الفرش المهلهل، ضاقت الدنيا عليّ، يتبادر إلى ذهني ذالك اليوم الذي ذهبنا ألى سوق بكارو لشراء ذالك الكتاب الذي عبّد الطريق لانهيار حياة صديقي، أشعر نوعا ما من الجريمة لأنني كنت العقل المدبّر وراء هذه الموجة من القراءة، وهل للقراءة ذنب ياترى؟!! .
في نهاية المطاف، مات صديقي، ليس بإمكاني أن أقول بملء الفم “استشهد” ربما لا يليق بها، بالنسبة إليّ هذه الكلمة وغيرها من المصطلحات ألتي عفا عليها الزّمن، هي التي أودت بحياة صديقي، شخصيا لا أجد سبباً مقنعا ومبرّرا ساريا مات في سبيله. ولكني أعضّ أصابع الندم دون أن أستطيع قولها. فصديقي ِفتاح مات ولم يستشهد. أخبرونا انه استشهد ليعطوا فخامة وقدسية للحدث المروع وليعطوا هذا الموت المفاجئ مباركة إلهية. ليس بون شاسع عندي بين موته وبين من رمى نفسه من فوق ناطحات السحاب ليترك هذه الحياة الدنيئة. أخيرا أتمنى لصديقي أن ينهل من منابع الخمر واللبن اللذيذ ومضاجعة قاصرات الطرف في جنة النعيم.