السلفيـة في جيبــــــوتي.. الواقـع وآفـاق المستقبـل (الجزء الثاني)
عبد الله الفاتح
آخر تحديث: 20/10/2018
لقراءة التقرير أو تنزيله بصيغة بي دي اف انقر هنا
التقرير الأسبوعي
الرقم 51
يتناول الجزؤ الثاني من تقرير “السلفية في جيبوتي.. الواقع وآفاق المستقبلط مفهوم السلفية لغة واصطلاحا ودلالاتها ومواقف المنظرين للفكر السلفي والمعارضين له
المبحث الأول:
السلفية: المفهوم والتوظيف:
لم يكن من الممكن الولوج في صلب موضـــــــوع هذه الدراســــة في سيــــــــاق التحليل البحثي، دون التعاطي الموضوعي والمنهجي، مع مصطلح “السلفية” لتحديد مفهومه ودلالاته، نظراً للخلل الواســــــــع في التعامل مع هـــــــــذا المصطلح، ودلالاته، وذلك الخلل لم يعد يقتصر على أوساط غير السلفية، وإن كان فيهــــــا أوضح، بل إنه يمتــــــــد أيضاً إلى الداخل السلفي، ولذلك سنحاول في هــــــــذا المبحث أن نُعـــــــرِّف هذا المصطلح وتوضيحه من عدة زوايــــــــا وأوجـــــــه، وذلك وفق التقسيم الآتي:
السلف لغــــــة:
أصــــل كلمة “السلف” بمعناها اللغوي: تعني ما مضى وانقضى، وسلف الرجــــــل: أي آباؤه المتقدمون، فقــــال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة): السين واللام والفاء أصــل يدل على تَقَدُمٍ وَسَبقٍ، ولذا فإن كلمة السلف في اللغة تعني: المُتَقَدِم والسَابِق، وهي جمع سَالِفٍ، ويجمع على (أَسلَافٍ) و (سُلُوفٍ) و(سُلَافٍ).
وقــــــال ابن منظــــــــور في “والسلف: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السبق والفضـــــل، ولهـــــذا سمي الصدر الأول من التابعيين “السلف الصالح” ومنه قـول النبي (صلى الله عليه وسلم) لابنته فاطمـــــة: فإنه نعم السلف وأنا لك” أخرجه مسلم. وقد وردت هذه الكلمة في عدة مواضع بالقرآن الكريم منــها:
قوله تعالي:﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفَاً وَمَثَــــــلَاً لِلْآخرِيْنَ﴾
وقوله تعالى:﴿عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ﴾
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن ْرَبِهِّ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكًحَ أبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾.
وقوله تعالى:﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيْئًا يِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخَالِيَةِ﴾.
السلف اصطلاحاً:
بنـــــــاء على التعريفات أعلاه، فإن كلمة (السلف) إذا أريــــد بمعناها اللغوي، لا تعني ســــــوى التقدم والسبق، وهو معنى نسبي يمكن أن تتعاره الأزمنة المتوالية كلها، ككلمة (قبل) سـواء بسواء، لأن كل زمن من الأزمان سالف إلى الأزمنة في أعقابه وخلفُ بالنسبة إلى الأزمنة التي سبقته ومرت قبلـــــه، غير أن هذه الكلمة قد اكتسبت معنى اصطلاحيـاً ثابتاً غير هذا، لا تتجاوزه ولا تنتقل منه إلى سواه، وتستعمـل بمنعاها الاصطلاحي المُستقر، بصدد الحديث عن أفضل العصور الإسلامية وأولاها بالاقتـــــداء والاتبـــــاع.
وقـــــــد تناول الكثيـر من العلماء – منــــــذ القدم- لهـــــذا المصطلح، بصــدد الحديث عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومنه قوله تعالى: (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان).
وبهــــــــــذا المعنى قال الإمام البخــــــــاري: قال راشـــد بن سعد: “كان السلف يستحبون الفحولة، لأنها أجرى وأجسر” وعلق الحافظ ابن حجـــــــر في كتابـه “فتـــح الباري” (66/6) قائلاً: أي الصحابة ومن بعدهم”.
ثٌــــم تقرر هــــذا المصطلح عند معظم أهل العلم بمن فيهم علماء الكـــــلام، وقال الإمام الغزالي معرفاً كلمة السلف: أعني “مذهب الصحابة والتابعين” وبالتالي فإن مصطلح “السلف الصالح” هو تعبيــــر يراد به المسلمون الأوائل من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين عاشـــــوا في القرون الثـــــــلاثة الأولى من عمـــر الإســــــلام، وهم الذين شهد لهم النبي(صلى الله عليه وسلم)بالخيـــرية في قولــــه [: (خيـــر الناس قرني، ثُم الذين يلونهم، ثٌم الذين يلونهم) .
السلف زماناَ:
كما سبقت الإشــــــــارة، فإن كلمة “السلف” بمنعاها الاصطلاحي المستقر، تعني تلك القــــرون الثـــــلاثة الأولى من عمـر هذه الأمة الإســــــلامية، التي شهــــد لها الرســـــول (صلى الله عليه وسلم)بالخيرية.
وهنا يأتي سؤال مهم، وهو: هل التحـــــديد الزمني الوارد في هذا الحديث وغيره كاف في تحديد معنى السلف اصطلاحاً؟ أو بمعنى آخر: هل كل من عاش في ذلكم العصر المبارك يكفي أن يكون من السلف الصالح الذين يجب الاقتاد بهم؟
ولا شك أن هـــــــذه المسألة ظلت محل جدل واختـــــــلاف منــــــذ قدم التاريخ الإســـــــلامي، وقد اختلفت فيهـــــــا آراء أهــــــل العلـــــم قديمــــــــاً وحديثـــــــــاً، وفي حيــــــن ذهب الجمهور، إلى أن الخيرية ثابتة لأفراد هذه القرون الثـــــــــلاثة جميعاً، بغض النظر عن اختلاف درجاتهم وتفاوتهم في الصــــلاح والاستقامة.
يرى بعض العلماء في مقدمهم الشيخ ابن عبد البــــر، إلى أن الخيرية ثابتــــة لمجموع المسلمين في تلك العصـور الثلاثة، أما الأفــــراد فقد لا تنطبق الخيـرية على بعض منهم، بل قد يأتي فيمن بعدهم من هو أفضل منهم.
ومع ذلك كله، يجـــــزم الدكتور عبد الله البخاري: بأن السبق الزمني وحده ليس كافيــــــاً في تعيين السلف، إذ لا بد أن يضاف إلى هذا قيـــــــدٌ مهمٌ، هو موافقته للكتاب والسنة، وفهم الصحابة، ولهذا نجـــــد أن أئمة السنة يقيــــــدون هذا الاصطــــــــــلاح، فيقولون السلف الصالح، ليخرج بذلك السلف الطالح ممن كان في عصرهم، ولم يكن على فهمهم ومنوالهم ومنهاجهم .
وهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد بن أمان الجامي، حيث قال: “عندما نٌطلقُ كملة السلف، فإنما نعني بهـا من الناحية الاصطلاحية: أصحاب رسو الله الذين حضروا عصره، فأخذوا منه هـــــــذا الدين مباشرة غضاً طرياً في أصوله وفروعــــــه، كما يدخل في هذا الاصطلاح: التابعون لهم، الذين ورثوا علمهم قبل أن يطُول عليه الأمـــد، والذين شملتهم شهادة الرسول لهم وثناؤه عليهم بأنهُم “خيـــر الناس” …
وقد ظهر هذا المصطلح واشتهر حين ظهرت النزاع ودار حول أصول الدين بين الفرق الكلامية، وحاول الجميع الانتساب إلى السلف، فإذن لا بد أن تظهر – والحالة هذه – أسس وقواعد واضحة المعالم، وثابتـة للاتجاه السلفي، حتى لا يلتبس الأمر على كل من يريد الاقتــــــداء بهم، وينسج على منوالهم.
مسألة اتباع السلف الصالح:
لقد أجمع العلماء على وجوب اتباع السلف الصالح، فقال الإمام ابن قُدامة: ” فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه، فإن السلف لا يخلو من أن يكونوا مُصِيبينَ أو مخطئين، فإن كانوا مصيبين وجب اتباعهم، لأن اتباع الصواب واجب، وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام، لأنهم إذا كانوا مصيبين، كانوا على الصراط المستقيم، ومخالفهم متبـــع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم.
وقال الأوزاعي: “اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، قل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم”.
مفهوم السلفية ودلالاتها:
يعد مصطلح “السلفية” من أكثـر المفاهيـم الفكـرية والسياسية الحديثة، إثارة لـلجدل والخلاف في واقعنا العربي والإســـــــــلامي، على اعتباره مصطلحاً فضفاضاَ يشمل أكثر من دلالة وتعريف.
ولعل سبب هذا الغموض والالتباس الذي يحيط بالمصطلح، يرجــــــــع بالدرجة الأولى إلى تعـــــــــدد الرؤى الفكرية والإيديولوجيـة لـلدارسين والمنشغلين بالمسألة السلفية، فضلاً عن عدم تحديد مضمون ودلالات هذا المصطلح في عديد من الدوائر الفكرية والسياسية.
فهناك من يرون “السلفية”: التيار المحافظ والجامد، بل الرجعي في حياتنا الفكرية، وفي جانب الفكر الديني على وجه الخصوص، بينما يعتبرها الآخرون: التيار الأكثر تمرداً من فكر الخرافة والبدع، ومن ثم الأكثر تحرراً واستنارة في مجال الفكر الديني بالذات .
وهكذا تباينت الأوساط الدينية والفكرية واختلفت آراؤها في مشروعية الانتساب إلى السلفية من عدمها، وقد انقسمت المواقف بين مؤيـد لها ويعتبرها نسبة محمودة لمنهج معصوم يجب الجميع اتباعه، ورافض لها يرى أن الادعاء وانتحال الانتساب للسلف الصالح، ليست سوى إحدى البدع المستحدثة بعد الرسول وخلفائه الراشدين، ولهذا نحاول من خلال السطور القادمة، تسليط الضوء على طبيعة هذا الجدل والخلاف في مسألة السلفية، وذلك على النحو التالي:
أولا موقف منظري الفكر السلفي:
كلمة “السلفية” بمعناها اللغوي تعني الانتساب إلى السلف، أما من حيث الاصطلاحي فإنها يقصد بها “مدرسة فكرية دينية سنية تدعو إلى اتباع منهج السلف الصالح بفهم نصوص الكتاب والسنة النبوية، باعتبـاره فهمـــــــاً يمثل نهـــــج الإسلام الأصيـــــــل”، وبهذا يرى المنظرون للفكر السلفي، بمشروعية مسألة الانتساب إلى السلف الصالح.
وقال شيخ الإســــلام ابن تيمية في “مجمـــوع الفتاوي” (149/4): “لا عيب على من أظهـــــر مذهب السلف، وانتسب إليه واعتزي إليه، بل يجب قبول ذلك بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقــــــاً”
وقال الشيخ الألباني معرفاً لهذا المصطلح: “إن السلفية: هي انتساب إلى السلف، وإن هذه النسبة ليست نسبة إلى شخص أو أشخاص كما هو حال الجماعات الأخرى الموجودة اليوم على البــــــلاد الإســـــلامية، بل هذه النسبة هي نسبة إلى العصمة، لأن السلف الصالح يستحيل أن يجمعوا على ضــــلال، وبخلاف ذلك الخلف، فالخلف لم يأت في الشرع ثناء عليهم، بل جاء الذم في جماهيرهم.
وقال أيضاَ: “إن التسمية بالسلفي جاءت تمييزاً عن المسلمين الذين لا يتبعون الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وإن تسموا بالإسلام والسنة”.
وقال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي (رحمه الله): “الاتجاه السلفي اتجاه إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله على فهم السلف الصالح، والمراد بالسلف الصالح هي القرون المفضلة”.
ثانيا موقف المعارضين لهذا الاتجاه:
من جانبهم يرى الكثير من العلماء والمفكرين، أن معاني مجمل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تضمنت كلمة “سلف” وما يتفرع عنها، لا تخرج عن الإطار اللغوي المعروف، وهو التقدم والسَّبق أي تحديد فترة زمنية معينة، دون إشارة إلى مذهب إســـــــلامي أو منهجية عقدية وأصولية فقهية معينة.
ونحن إذا ذهبنا نلتمس معنى هذا المصطلح في القرآن الكريم، سنلاحظ أن “السلف” يعني: “الماضي” وما سبق الحياة الحاضرة التي يعيشها الإنسان، ونفس هذا المعنى يدل عليه هذا المصطلح في الحديث النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) لابنته فاطمة الزهراء (رضي الله عنها): ” فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك …”.
وبحسب رأي إبراهيم أبو عواد – فإن من العجيب أن يُحمل هذا الحديث على شرعنة السلفية استناداً إلى فهم مغلوط منا في حقيقة معنى كلمة “السلف” التي تعني: المُتقَدِّم والسَابِقُ.
وعبثــــــاً يحاول – منظري الفكر السلفي – إعطاء “السلفية” صبغة دينيــــــة، بهدف تأصيلها وانتزاع الشرعية الدينية لها، من خلال إخراج آيات القرآن والأحاديث الشريفة التي وردت فيها كلمة “سلف” عن سياقها العام وبشكل يخالف كل قواعد اللغة العربية.
ويرى الدكتور أحمد محمــــــود: أن العمل العلمي السليم يتطلب بوضع المسميات في نصابها الصحيح، فمسمى (السلف الصالح) يطلق على السابقين من الأمة الإســــلامية، أي عصر الرسالة الخاتمة وما فيه من الرســـول الله، والصحابة ومن بعدهم (التابعين وأتباع التابعيـن) وهذه الفترة الزاهـــــــرة لها سماتها وملامحها الخاصة بها.
وما بعـد عهود (السلف الصالح) تأتي عهود (الخلف) ونحن منهم، بمذاهب وقضايا وآراء منها الصحيح والسقيم، والصواب والخطأ، ولذا لا يجوز للخلف ادعاء وانتحال الانتساب للسلف الصالح تسمية، أو ينسب إليهم آراء قيلت بعدهم بقرون في مرحلة الخلف، وإلا كان كذباً على مبلغ الرسالة (من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
وعليه فإن انتساب فرقة من الفرق الإسلامية، ذات صبغة مذهبية: المذهب الوهابي في “الاعتقاد” والحنبلي في “الفقـــــــه” ونسبة آراء هذين المذهبين الأصول والفروع إلى عهد السلف الصالح، يعد تدليساً وخداعاً وبهتاناً وزوراً.