وأخيرا أدركوا أهمية الفقه المذهبي
عبد الحكيم علي
آخر تحديث: 1/10/2015
عبد الحكيم علي
ظل الجدل محتدما في الصومال منذ عقود حول أهمية الفقه المذهبي بعد وصول أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى هذه الديار فالصوماليون كانوا ولا زالوا متسمكين بمذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي أحد أئمة المذاهب الأربعة، إلا أن من تأثروا بمدرسة الشيخ المذكور شددوا النكير على مقلدي الإمام الشافعي وكانوا يرفعون منذ زمن بعيد شعارهم المشهور “نكتفي بقال الله وقال رسول الله ولا حاجة لنا إلى قال الشيخ الفلاني” وكأن أئمة المذاهب ومن بينهم الشافعي لم يرجعوا إلى الكتاب أو السنة فيما ذهبوا إليه من أحكام في مختلف الأبواب الفقهية مع أنهم من أشد الناس تمسكا بالكتاب والسنة فمن يقرأ كتاب الأم للإمام الشافعي يرى استناد الإمام إلى الأصلين فيما يذهب إليه من أحكام، وليس لقائل أن يقول لماذا اختلف الأئمة في الأحكام الفقهية إذا كان مصدرهم الكتاب والسنة؟ فإن لذلك الاختلاف أسبابا معروفة ترجع أحيانا إلى اللغة أو فهم الآيات أو الأحاديث أو طرق الاستنباط ولست بصدد تعداد تلك الأسباب فإن هناك كتبا ألفت في هذا المجال.
ودارت الأيام والليالي حتى تراجعت شريحة كبيرة من التيار السلفي في الصومال عن موقفها وشرعت في دراسة مذهب الإمام الشافعي بعد أن أدركت أهمية الفقه المذهبي وأن المرء لن يصير فقيها ولو قرأ آيات الأحكام ودرس الكتب المخصصة للأحاديث الواردة في الأحكام الفقهية مثل منتقى الأخبار وبلوغ المرام وشروحهما وحتى لو درس الأمهات الست فإن الفقه- وإن أخذ من الكتاب والسنة والإجماع وغيرها من الأدلة- فن له خصائصه فمن نظر في كتب التاريخ يرى أن من بين العلماء من بلغ درجة عالية في علم الحديث ووصف بالحافظ إلا أن ذلك لم يجعله فقيها كما أن من بينهم من وصف بالفقيه ولم يستحق لقب محدث ومنهم من جمع بينهما فوصف بالمحدث الفقيه.
والسئوال الآن ما هي الأسباب التي جعلت بعض السلفيين يعودون إلى الفقه المذهبي؟ والجواب أن هناك عدة أسباب أدت إلى ذلك من بينها أنهم كانوا في أيامهم الأولى يعارضون كل شيء عند علماء الصومال فهاجموا العقيدة الأشعرية والمذهب الشافعي والتصوف وغلا بعضهم في التشدد في ذلك، ومن القصص المشهورة أن أحد رواد الحركة الوهابية في الصومال فسر الآية 97 من سورة الأنبياء بقوله: ((إنكم)) يا أصحاب الأعلام – يقصد أتباع الطرق الصوفية لأنهم كانوا يرفعون الأعلام في المناسبات الدينية- ((وما تعبدون من دون الله)) من القبور ((حصب جنهم)) وهذا تحريف للكلم عن مواضعه لكنهم مع مرور الأعوام بدأوا يدركون أهمية الفقه المذهبي خاصة عند قيام المحاكم الشرعية في الصومال في تسعينيات القرن الماضي، فقد تبوأ الفقهاء مناصب القضاء في تلك المحاكم، كما أدركوا خطورة التشدد وإنكار كل شيء وتكفير المخالف، فقد عاد هذا بالضرر على شيوخ التيار السلفي أنفسهم قبل غيرهم؛ حيث أصبح بعض التلاميذ الذين نهلوا من معينهم يكفرونهم بسبب الخلاف في بعض المسائل، ويمكن أن يكون من بين أسباب رجوعهم إلى الفقه المذهبي احتياجهم إلى كثير من الفروع الفقهية التي ربما لا يجدونها منصوصة في آيات وأحاديث الأحكام وإنما استنبطها الفقهاء بالقياس وغيره من الأدلة المعروفة في كتب الأصول، وأذكر أن بعض المنتسبين للتيار السلفي درس الفقه عند الفقيه الشهير الشيخ علي مؤمن وأتقن على يديه كتاب “منهاج الطالبين” للإمام النووي الذي هو من الكتب المعتمدة لدى السادة الشافعية قبل انضمامه إلى السلفية وأصبح بعد ذلك ينكر الفقه المذهبي في الظاهر، أما إذا واجهته بعض المسائل الفقهية فقد كان يعود إلى المنهاج يتصفحه لاستخراجها !!
وليس المقصود من هذا المقال النيل ممن عادوا إلى الفقه المذهبي بعد إنكارهم الطويل له لأن العودة إلى الصواب فضيلة وإنما المقصود تقديم النصيحة لهم لئلا يضيع وقتهم مرة أخرى، فقد ذكر عبد الفتاح اليافعي في كتابه “التمذهب” أن البعض رأى أن الدراسة غير المذهبية غير مجدية وانتقلوا إلى تدريس بعض الكتب المذهبية لكنهم لم يأتوا البيوت من أبوابها فوقعوا في خبط في تدريس تلك الكتب حيث لم يسيروا في السلّم التعليمي ولم يفهموا الكلام نتيجة هوس الراجح فأصبحوا كالمستغيث من الرمضاء بالنار.
فالتقليد لا محيص عنه ولا يمكن لأحد – كما يقول الدكتور مصطفى الخن في تقديمه لكتاب اليافعي- أن يأتي باجتهاد مطلق دون انتساب لإمام من الأئمة ولن يخرج في اجتهاده عنهم إلا إن ترك الإسلام، وكان الدكتور -كما ذكر في مقدمة كتابه الفذ “أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء”- ممن عقدوا العزم على محاربة المذاهب الأربعة لكنه لما اطلع على استنباط الأئمة للفقه من مصادره تلاشى حقده على المذهبية، وأدرك فضل الائمة الأعلام وأوضح أن الذي يستطيل عليهم كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد!
ولقد رأينا أن الذين ينادون بالاجتهاد وبنذ التقليد لا يخروجون عن أقوال مشايخهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن عبد الوهاب أليس هذا هو التقليد بعينه؟ وإلا لماذا اختاروهم دون غيرهم من العلماء الذين يفوقونهم بمراحل علما وعملا؟ وقد أقر بهذه الحقيقة الشيخ علي ورسمه وهو من رموز السلفية في الصومال وذكر أن السلفيين لم يجهدوا أنفسهم في بحث مواقف العلماء المتقدمين من السلف واكتفوا بتفسيرات الشيوخ ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وقصروا الحقيقة على أفكارهم.