هل يعكس "تمرد الخرطوم" خطرا حقيقيا على الثورة السودانية؟!
صفاء عزب
آخر تحديث: 20/01/2020
القاهرة- في الوقت الذي يتواكب مع احتفالات السودانيين بالذكرى الأولى لثورتهم الشعبية التي أطاحت بنظام البشير بعد ثلاثة عقود من الحكم المستبد، فوجئوا بأحداث ساخنة في ليلة دامية اختلفت مسمياتها ما بين مخطط تخريبي، وتمرد مخابراتي، ومحاولة انقلاب، وبصرف النظر عن حقيقة المسمى إلا أن النتيجة كانت واحدة وهي حدوث اضطرابات في بعض الأحياء السودانية وسقوط ضحايا بسبب عملية المواجهة بين منفذي الحدث وبين الجهات الحكومية السيادية التي تعاملت معهم، وهو ما أعاد للأذهان مشاهد العنف المتبادل في ميادين التظاهر خلال الفترات السابقة قبل توقيع اتفاق تقسيم السلطة بين المؤسسة العسكرية والمدنيين في السودان.
وتثير هذه الأحداث هواجس الخوف من تبدد حالة الإستقرار النسبي التي كان قد حققها السودانيون مؤخرا بعد مفاوضات عصيبة وجهود دولية وإقليمية مستميتة، من أجل وقف إراقة الدماء السودانية، كما يجدد القلق على مستقبل الأوضاع في السودان من احتمالات الثورة المضادة وأعداء التغيير من المحسوبين على النظام السابق، سيما في ظل توجيه البعض أصابع الإتهام إلى قيادات أمنية ومخابراتية منسوبة لنظام البشير.
وكان سكان الضاحية الشرقية من العاصمة السودانية الخرطوم ومعهم قاطنو منطقة ” كافوري” قد سمعوا دوي أصوات طلقات رصاص بشكل مفزع ما استلزم تدخل رجال الأمن قبل معرفة التفاصيل الكامنة وراء ذلك الحدث والتي أعلن بعدها عن وجود حالة تمرد بين عناصر الجناح المسلح بجهاز الأمن والمخابرات السوداني والمعروفين ب”هيئة العمليات” وإحالة الأمر لأسباب خاصة بمستحقات مالية. وما يثير علامات الإستفهام حول هذه الأحداث هو تعمد خروجها عن نطاق مقرات عمل المتمردين وتوسيع نطاق التمرد إلى خارج هذه المقرات ليصل الأمر إلى إطلاق الذخيرة الحية في الشوارع وفي الهواء الطلق بشكل أثار فزع المواطنين في الشوارع، وهو ما تبعته عمليات انتشار لقوات الأمن أمام الطرق المؤدية للمتمردين لتطويقهم. وتطورت الأحداث لتشهد اشتباكات بين الطرفين، قبل إعلان سلطة الطيران المدني إغلاق الملاحة الجوية بمطار الخرطوم لمدة 5 ساعات وهو الإغلاق الذي شمل هبوط وإقلاع الطائرات وذلك كإجراء احترازي.
في خضم هذه الأحداث برز اسم شهير وجهت له أصابع الإتهام بأنه العقل المدبر لتمرد الخرطوم وهو صلاح عبد الله محمد صالح، مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق، المعروف باسم “صلاح قوش”، والذي اتهمه نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، محمد حمدان حميدتي، في تصريحات رسمية ومباشرة، بالوقوف خلف “المتمردين”.
ولا زالت هناك حالة من التكتم على تفاصيل ما جرى في ذلك اليوم، كما أنه لم يعلن صراحة عن حجم الخسائر وعدد الضحايا التي سقطت جراء المواجهة التي وقعت بين المتمردين وقوات الأمن السودنية، لكن لجنة “أطباء السودان المركزية”، أعلنت عن إصابة 5 أشخاص خلال عمليات إطلاق النار في منطقة كافوري حيث يقع مبنيان لجهاز المخابرات، بينما ذكرت صحيفة سودانية أن فردا واحدا في الجيش، قتل بالرصاص خلال الاشتباكات.
على الرغم من أن “قوش” ليس الوحيد الذي ذكر اسمه كمدبر للتمرد الأخير حيث أشار “حميدتي”أيضا إلى رئيس جهاز المخابرات السوداني الذي استقال مؤخرا أبو بكر دمبلاب، والذي اتهمه بالتقصير في واجبه تجاه مواجهة تفلت المتمردين، إلا أن “قوش” كان الاسم الأكثر إثارة للجدل على خلفية تلك الأحداث باعتباره رجل الأمن القوي في عهد الرئيس المعزول عمر البشير كما ترددت حوله شائعات كثيره فيما يتعلق بمكان تواجده الحالي بعد خروجه من السودان وما ارتبط به من شائعة تعرضه لمحاولة اغتيال قبل نفيها، بجانب شائعات أخرى عن أماكن انتقاله بعد خروجه من السودان، ولازال السؤال ملحا حول الجهة المجهولة التي يقيم بها حاليا والتي تردد أنها إريتريا قبل نفي الأخيرة.
الغموض الذي يصاحب شخصية “قوش” رجل البشير القوي، كانت سببا في إثارة تلك الشائعات حوله، سيما في ظل الملابسات الغريبة التي صاحبت محاولات القبض عليه والتي فشلت بفضل نجاح قوات الحراسة الخاصة به في حمايته والحيلولة دون تنفيذ قرار النيابة السودانية بالقبض عليه بتهمة قتل متظاهرين، قبل اختفائه وهروبه لجهة غير معلومة. وفي المقابل تعاملت الجهات العدلية بالسودان مع “قوش” على اعتباره متهما هاربا وطالبته وثلاثة متهمين آخرين بتسليم نفسه حتى لا تتخذ ضده إجراءات قانونية جديدة، وفي هذا الإطار أعلن مولانا تاج السر الحبر النائب العام السوداني عن تدوين عدة بلاغات ضد المدير العام السابق للمخابرات السودانية، وأكد على شروع السلطات في استرداده عبر الإنتربول. وفي نفس الإطار أصدرت الخارجية السودانية إخطارا لبعثاتها في الخارج وكذلك بمكتب الأمم المتحدة في جنيف وبقية المنظمات الدولية، بحظر التعامل مع الجواز الدبلوماسي الذي كان يحمله “قوش”، كما صدر قرار أمريكي بمنع دخوله للأراضي الأمريكية.
يذكر أن الفريق أول صلاح عبد الله قوش مدير جهاز الأمن السوداني السابق لعب دورا مهما في الترتيبات الخاصة بإزاحة وعزل الرئيس السوداني السابق عمر البشير وكذلك في اتصالاته مع القوى السياسية المعارضة قبل سقوط نظام البشير، وذلك بحسب تصريحات للفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي. وفي مرحلة تالية ظهر ما يعرف ب”مسيرات الزحف الأخضر” والتي تعتبر جزءً من مخطط لقيادات أمنية سابقة وبعضها لازال يعمل بجهاز الأمن السوداني، وهو ما يثير شكوك في وجود علاقة بينه وبين أحداث التمرد الأخيرة والتي اتهم قوش بأنه وراء التخطيط لها.
على الرغم من غموض تفاصيل الأحداث الأخيرة بالخرطوم، إلا أن المعلن هو قيام رجال أمن بالتمرد بسبب مطالباتهم بمستحقات مالية، وذلك وفق بعض التصريحات الرسمية وإن كان هذا السبب لم يقنع الكثيرين ممن يخشون تكرار هذه الأحداث بسبب التدخل من قبل رجالات ورموز النظام السابق بما يهدد بتعكير صفو الأمن والإستقرار المنشود في السودان بعد نجاح الثورة والتوصل لاتفاق تاريخي لتقسيم السلطة بين المدنيين والعسكريين خلال الفترة الإنتقالية.
ترجع بدايات الأزمة إلى قرار المجلس العسكري في السودان، في يوليو الماضي، بتغيير اسم جهاز “الأمن والمخابرات الوطني” إلى اسم “جهاز المخابرات العامة”، وتسريح “هيئة العمليات” في الجهاز، وتجريدها من السلاح، وتحويل المؤسسة الأمنية، إلى جهاز لجمع المعلومات الاستخباراتية، الأمر الذي دفع 12 جنديا من هيئة العمليات التي تعد الجناح المسلح لجهاز الأمن والمخابرات السوداني، لإعلانهم رفض دمجهم في قوات “الدعم السريع” وطالبوا بإحالتهم للتقاعد، وفي ذات الوقت رفضوا تسليم أسلحتهم قبل الحصول على تعويض مالي، وهو ما أدى إلى تعميق الأزمة وتصعيدها بشكل خطير لما وصلت إليه مؤخرا، وإعادة إثارة اسم “قوش” من جديد في تلك الأحداث واتهامه بتدبير محاولة التمرد مما دفع مسؤولين سودانيين للمطالبة بالقبض عليه عبر الإنتربول الدولي.
وعلى الرغم من تعيين مدير جديد لجهاز المخابرات، لا زالت هناك مخاوف على أمن واستقرار البلاد من تكرار محاولات التمرد ومخططات الإنقلاب والإلتفاف على المكاسب السياسية التي حققها الشعب السوداني بسبب مؤامرات منسوبة لرموز وأعوان النظام السابق، سيما وأن ما حدث مؤخرا جاء في أعقاب زيارة مفاجئة قام بها صلاح قوش للعاصمة السودانية وزار خلالها بعض الشخصيات التي كانت مقربة من الرئيس السابق عمر البشير، وذلك بحسب ما ذكرته بعض المصادر السودانية.
إن قراءة هذه الأحداث وتفاصيلها بتأمل دقيق يكشف حجم الخطر الذي يتربص بالثورة السودانية وحساسية الوضع في السودان سيما مع عدم حسم كل القضايا التي يحاكم فيها رموز النظام السابق بما فيها قضايا الفساد والعنف ضد المدنيين سواء إبان الثورة السودانية أو خلال فترات سابقة، وهو ما يجب أن يسترعي انتباه الجهات الرقابية والقانونية المعنية بالأمر جنبا إلى جنب مع الجهات الأمنية الحارسة لأمن البلاد.
لاشك أن للشعب السوداني وقيادات ثورته دورا حيويا خطيرا في مواجهة هذه المحاولات بما يستلزم اليقظة المستمرة لتفويت أي فرصة على أعداء التغيير للعودة للوراء.