هل تحمل “انتفاضة الخبز” رياح ربيع عربي جديد للسودان؟
صفاء عزب
آخر تحديث: 7/01/2019
مع قرب اكتمال العقد الثالث لحكم الرئيس عمر البشير في السودان، تشهد بلاده مظاهرات حاشدة وتوترات مثيرة للقلق بسبب تصاعد نبرة العنف والغضب الجماهيري في مواجهة النظام، والذي بلغ حد المطالبة بإسقاطه. ومع تتابع تلك الأمواج العاصفة من الغضب الجماهيري المتزايد مع زيادة حدة المواجهة مع الشرطة وسقوط أعداد متزايدة من الضحايا مع الوقت، تزداد المخاوف على مستقبل السودان وما يمكن أن يؤول إليه حال شعبه في ظل سيناريوهات مستقبلية متعددة قد تقوده إلى المجهول.
على مدار ثلاثين عاما من حكم البشير، عانى السودانيون من شتى أنواع المشكلات من سياسية وأمنية واقتصادية. كما تعرضت البلاد خلال حكمه لأزمات عاصفة تمخضت عنها نتائج شديدة الخطورة تجسد أخطرها في إنفصال جسدي السودان الجنوبي والشمالي عن بعضهما البعض عام 2011 ما أدى إلى خسارة السودان لما يقرب من ثلث أراضيه و 75% من موارده البترولية الموجودة في الجنوب، الأمر الذي أدى إلى تفاقم المشكلات الإقتصادية وتدهور الأحوال المعيشية، بفعل التضخم الرهيب الذي تشهده البلاد، والذي استفحل مع فرض الحظر على السودان بعد اتهامه بالتعاون مع كيانات إرهابية. ولكن هذه الأزمة لم تنفرج حتى بعد رفع الحظر عن السودان عام 2017.
لقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاع مؤشرات العنف والغضب الجماهيري نتيجة لارتفاع أسعار السلع الأساسية وعجز الدولة عن توفير الضروري منها بالشكل المطلوب، الأمر الذي ساهم في استفحال موجات الغلاء لنقص العرض عن الطلب. كما تدهورت قيمة العملة السودانية لأدنى مستوياتها وبلغ سعر الدولار الرسمي في الأسواق السودانية 48 جنيها سودانيا، بينما كسر حاجز الستين جنيها خارج التعاملات الرسمية. وقد أدى ذلك إلى تضاعف أسعار رغيف الخبز عدة مرات خلال فترات زمنية قصيرة، وهو ما كان بمثابة الشرارة التي أشعلت نيران الغضب في الشارع السوداني بشتى أنحائه، تعبيرا عن رفض أي ارتفاع جديد في الأسعار لعدم قدرة السودانيين على التحمل، والتنديد بتردي أحوالهم في الفترة الأخيرة.
يبدو المشهد السياسي الحالي في السودان شديد الخطورة بعد أن تطورت انتفاضة الخبز من احتجاجات لفئات لها مطالب حياتية بسيطة، إلى ما يشبه الثورة الشعبية العارمة ضد النظام بأكمله بعد أن ارتفع سقف المطالب في الشارع السوداني وصولا للمطالبة بإسقاط النظام فيما يشبه سيناريوهات ثورات الربيع العربي التي وقعت أحداثها في دول عربية مجاورة مثل مصر.
وفي ضوء ذلك تثور التساؤلات عن تطور الأحداث في السودان لمعرفة إلى أين تتجه ولمن تنحاز وهل يكون الشعب هو الطرف الفائز في هذه الأجواء العاصفة أم يكون الخاسر الأكبر كما حدث في كثير من بلدان الربيع العربي؟ وما هو مصير البشير؟ هل سيلحق بسابقيه من الرؤساء الذين ثارت عليهم شعوبهم في العالم العربي بين مخلوع وسجين وقتيل؟!
على الرغم من أن الشعب السوداني يتميز بالطيبة، والعنف ليس من طباعه، إلا أنه بالمقارنة بأحداث مشابهة في فترة الثمانيات فإن ما يمر به السودان حاليا من أحداث يختلف كثيرا عن ذي قبل. وبحسب ما يراه مراقبون وشهود عيان على الأحداث، فإن احتجاجات السودان الحالية تشهد اختلافين أساسيين أولهما أن الشرارة الأولى للأحداث انطلقت من منطقة عطبرة الإقليمية وليس من العاصمة كما كان يحدث من قبل. ومن عطبرة امتدت نيران الغضب الجماهيري إلى 25 مدينة سودانية ليشهد السودان مظاهرات عارمة ليس لها لها مثيل في تاريخه، وهي سمة جديدة على الشارع السوداني يضاف إليها استطالة مدتها حيث بدأت الاحتجاجات في التاسع عشر من ديسمبر 2018 ولازالت مستمرة رغم مرور ما يقرب من عشرين يوما عليها، بينما أطول مدة للإحتجاج في السابق لم تتجاوز 11 يوما. وهو ما يعول المراقبون عليه في احتمالية تصاعد الأحداث وتكرار الدعوة إلى مسيرات تنوي الإتجاه للقصر الجمهوري لإسقاط النظام كما حدث يوم الأحد السادس من يناير، لكنه قوبل بمقاومة كبيرة من قبل أجهزة الأمن الذين تصدوا للمسيرة الشعبية بكل قوتهم، بما في ذلك قيامهم باعتقال العديد من الشخصيات ومنهم أساتذة جامعيون ومثقفون.
لا شك أن الصدام الواقع بين الشعب المتمثل في المتظاهرين، والنظام المتمثل في أذرعته الأمنية، يثير المخاوف من انجراف البلاد لحرب أهلية في ظل سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى بحسب تصريحات لمنظمة العفو الدولية واعتراف الأجهزة الرسمية السودانية نفسها، مع تضارب الأرقام، وسيما مع احتمالات استمرار الأحداث الساخنة لفترات طويلة نسبيا. كما تزداد المخاوف من احتمالات استغلال بعض الحركات السياسية المسلحة هذه الأحداث للعمل على إيجاد موطئ قدم لها على حساب تمزيق ما تبقى من الجسد السوداني.
لقد حاول النظام التعامل مع الأحداث بشكل يراه البعض “مسطحا” وغير عابئ بموجات الغضب الجماهيري التي يعج بها الشارع السوداني، فحاول بث طمأنة للسودانيين من خلال بعض القرارات الإقتصادية الهزيلة التي لا تغني ولا تسمن من جوع. وقد قوبلت هذه القرارات برد فعل سياسي صارم عندما قام 22 حزبا سودانيا غالبيتها مشاركة في الحكومة، بالتوقيع على مذكرة رفعتها، للرئيس السوداني عمر البشير، للمطالبة بحل الحكومة والبرلمان السوداني.وتكونت الجبهة الوطنية للتغيير من 22 حزبا، وطالبت بتكوين مجلس سيادي جديد يقوم بتولي أعمال السيادة بواسطة حكومة انتقالية وطنية لوقف الانهيار الاقتصادي وتتولى مهمة الإشراف على تنظيم انتخابات عامة نزيهة.
هناك من يعتبر أن ما يحدث في السودان هو انتفاضة يسارية وتمرد شيوعي ضد النظام الحالي الذي يسير في كنف الأنظمة الإسلامية، ويستند إلى ذلك في أن الشرارة الأولى للمظاهرات انطلقت من عطبرة مهد الفكر اليساري ومحل الأنشطة النقابية والشيوعية. وقد عبر النظام ممثلا في البشير عن وصفه للمشهد السياسي بأنه بدأ بمطالب شعبية وانحرف عن مساره بسبب دخول فئات مندسة واستغلالها الأحداث في تهديد أمن السودان. وهناك من يرى في أحداث السودان ربيعا عربيا تحمل رياحه أملا للتغيير والتخلص من نظام فشل في تحقيق أية إنجازات لشعبه على مدار ثلاثين عاما من حكمه، في الوقت الذي تبدو فيه ردود الأفعال الدولية والإقليمية تجاه تلك الأحداث مائعة وفاترة ليست بسخونة مواقفها السابقة مع باقي الدول التي هبت عليها رياح ما سمي بالربيع العربي.
بالنظر للوجه الآخر من الصورة يثور التساؤل البديل: هل ينجو الرئيس البشير من مقصلة الربيع العربي إذا ما اتحدت كل قوى الشعب ضده لإسقاطه؟ وهل يستطيع الحراك السياسي الذي يشهده السودان حاليا خلع البشير وإقصاءه عن الحكم؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات ترتبط بأمرين يتعلقان بعنصرين هامين هما موقف الجيش السوداني ومدى توحد وقوة الحراك السياسي وقدرته على الاستمرارية في مواجهة النظام والإصرار على مطالبه.
بالنظر إلى القوى الشعبية التي دخلت المشهد السياسي في السودان فقد بدأت نقابية ثم انضمت إليها أحزاب ممن انقلبت على الحكومة وتكونت الجبهة الوطنية للتغيير. كما أن هناك أطيافا متنوعة من المتظاهرين في الشارع السوداني تحركت كلها بشكل تلقائي للدفاع عن لقمة العيش وليس لأهداف عقائدية أو سياسية، وهو ما يعزي إليه البعض نجاح البشير في استمالة هذه الفئة ببعض القرارات المتتابعة لإخفاء مظاهر الأزمة، وهو ما بدا في صورة اختفاء طوابير الخبز وتوفير بعض الإحتياجات الحياتية الضرورية لتجفيف الشارع تدريجيا من المظاهرات الغاضبة.
ويرى المراقبون في تلك الخطوة محاولة من النظام السوداني في الفصل بين مطالب الشعب وبين الأهداف السياسية التي تهم الأحزاب والنخبة السياسية، بهدف تفكيك المحتجين بمساعدة الردع الأمني. كما يأتي الجيش عنصرا أساسيا في توازن المعادلة بين الشعب والرئيس، وقد أعلن الجيش صراحة دعمه للرئيس البشير من اليوم الأول للإحتجاجات السودانية. إلا أن هناك احتمالا واردا بتدخل الجيش وإعلان الإنحياز للشعب، إذا ما جد الجد وتطلبت الأمور ذلك، وهو أمر لن يحدث إلا في حالة الإصرار الشعبي العنيد على التغيير واستمرار المواجهات العنيفة بين الشرطة والمتظاهرين واتساع دائرة العنف الأمني بشكل خطير يهدد البلاد.
ويبقى هذا السيناريو بعيدا لحد كبير، لأن هناك من يرى القوى المعنية بالحراك السياسي وسط تلك الأحداث غير مدعومة بجذور حقيقية قادرة على إحداث ذلك التغيير والإصرار على إدراكه من خلال استغلال هذا السياق السياسي. يضاف إلى ما سبق المواقف الدولية من أحداث السودان والتي تبدو هادئة خاصة فيما عدا ما يتعلق بالجانب الحقوقي والإنساني، وذلك بالمقارنة بالمواقف الدولية تجاه دول أخرى مثل سوريا أو اليمن أو مصر أو ليبيا. بل على العكس يبدو البشير مدعوما من الخارج أكثر من الداخل، وقد تأسف قوى دولية عربية وأجنبية على غياب البشير عن الساحة السياسية لما يلعبه من أدوار تخدم أهداف هذه القوى. كذلك قد يأسف عليه الإتحاد الأوروبي لتعاونه معه في محاربة الهجرة غير الشرعية من إفريقيا لأوروبا ودوره في منع تدفق المهاجرين إلى هناك. ويبدو البشير ورقة مهمة أيضا للولايات المتحدة في ظل التعاون الإستخباراتي المشترك الكبير بينهما.
على الرغم من تشابه مقدمات الأحداث في السودان وشعارات الاحتجاجات الشعبية مع نظيرتها في ثورة يناير المصرية والتي بدأت بمطالب بسيطة وارتفع سقفها بإسقاط النظام، إلا أن الأمر يبدو كما لو كان البشير قد استوعب الدرس من سابقيه، وأعد العدة جيدا بمصدات لرياح الربيع العربي ومواجهة معارضيه بكل طاقته بمساعدة أجهزته الأمنية من شرطة والاحتياط المركزي، والأمن الشعبي، لقمع المظاهرات وتجفيفها بالفصل بين المطالب والسياسة واستغلال حالة التشرذم التي تعانيها المعارضة.
في ظل هذه المعطيات يبدو المشهد السوداني معقدا ومحيرا بين شعب غاضب وله مطالب، وقوى حزبية وسياسية ترتب للتغيير، ورئيس يستميت في الدفاع عن نظامه بكل السبل. هنا تأتي أهمية الجهات النقابية السودانية والتي تحظى بشعية كبيرة أكثر مما تحظى به الأحزاب، ويعول عليها تأجيل المواجهة والصدام وممارسة الضغط على النظام لتحسين الأحوال المعيشية وإعداد المسرح السياسي للانتخابات التي يحل موعدها في 2020 لدرء المخاطر الأمنية عن البلاد وحفظ الأرواح. وهو توجه تتبناه قوى دولية مثل الإتحاد الأوروبي ومعها بريطانيا.