قراءة في كتاب ” GODOB LA’AAN” للشاعر والسياسي حسين عبدي حلني.
الصومال الجديد
آخر تحديث: 13/03/2024
بقلم الكاتب: محمد فاتولي
نبدة عن الكاتب
حسين عبدي حلني هو شاعر وأديب وسياسي صومالي بارز، وُلد في 12 يونيو 1955 في منطقة تقع بالقرب من مدينة “عيل برديه” الواقعة جنوب غرب الصومال، حاصل على دبلوم في العلوم السياسية عام 1979 من معهد العلوم في مقديشو، كما أنه حائز على شهادة متقدمة في الإدارة التنفيذية من جامعة بيتسبرج في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1988، وبكالوريوس في الإدارة العامة عام 1991 من جامعة باسيفيك ويسترن في الولايات المتحدة، حاز حلني على الماجيسير من جامعة جورج ماسون في فرجينيا بالولايات المتحدة عام ٢٠٠٥ حيث كان مجال بحثه بطبيعة الحال في السياسة، بالتحديد في تسوية وحل النزاعات.
لم يقتصر الرجل على الاهتمام الاكاديمي للسياسة، لكنه مارسها في الواقع من خلال عمله في مكاتب حكومية، أبرزها العمل في وزارة المالية الذي شغل أهم مكتب فيها وزيرا للمالية لدورتين في عام 2010، وعام 2013، هذا وقد لا يخلو سجل السيد حلني الحافل بالإنجازات، عن اهتمامه بمجال العمل مع منظمات إقليمية ودولية، مثل الهيئة الحكومية للتنمية “ايقاد” حتى أصبح الرجل يُعد أحد الكفاءات التي لم يعد المجتمع الصومالي يستغني عنها، إذ أنه تم تكليفه مؤخرا بتمثيل مصالح الصومال سفيرا لها.
بالإضافة الى أن السيد حلني سياسي عمل بالشأن السياسي ممارسة وتنظيرا، فإن أهم ما يعرّف الرجل هو كونه أديبا، وناقدا، وشاعرا صوماليا اهتم بشكل كبير بالأدب والثقافة الصومالية، قرض الشعر وكتب بإسهاب في الأدب الصومالي، الأمر الذي منحني متعة مطالعة كتاب “GODOB LA’AAN”
تدشين الكتاب
في الثامن والعشرين من يوليو من العام الماضي، شهدت العاصمة الصومالية مقديشو تدشين هذا الكتاب الذي أنا بصدد الحديث عنه اليوم، في حدث ثقافي بارز، وبهدف إثراء الحياة الثقافية والفكرية في الصومال. يجمع الكتاب الذي يقارب مائتي صحفة بين طياته مواضيع متنوعة تتناول جوانب مختلفة من الحياة الصومالية سابقا، بما في ذلك الأدب، والتاريخ والثقافة والاجتماع. الحدث الذي أقيم في قلب مقديشو لقي اهتماما مع حضور كبير من الأكاديميين، والكتّاب، والناشطين الثقافيين، بالإضافة إلى جمهور واسع من المهتمين بالشأن الثقافي. وقد أتاح هذا التدشين فرصة للتفاعل المباشر بين المؤلف وقرائه، وفتح باب الحوار حول مسائل حيوية تتعلق بالهوية الثقافية والاجتماعية الصومالية، لاسيما موضوع الدعوة الى السلام في الأدب الصومالي.
مقدمة:
في الوقت الذي نحاول فيه فهم العوامل التي تشكل الوعي الجمعي لمجتمع معين، نجد أن البيئة تمثل دورا محوريا في تشكيل وجهات النظر ومفاهيم المجتمعات. في هذه المراجعة لكتاب ” GODOB LA’AAN” نسلط الضوء على الأدب الصومالي بشكل عام، والشعر على وجه خاص كونه يمثل انعكاسا دقيقا لواقع المجتمع سواء كان ذلك من الناحية الإجتماعية أوالسياسية أوالثقافية على سبيل المثال لا الحصر، كما نقدم بإيجاز أسلوب الرجل في دراسته الجديدة والتي تدورحول موضوع السلام في الشعر الصومالي، مركزا على مفهوم السلام في إطار اجتماعي يتصف بقدر كبير من الاتزان والعقلانية، وذلك في محاولة لإعادة قراءة تاريخ الصوماليين الأوائل، لا سيّما الجانب المتعلق بالحروب الأهلية، بين قبائل تنتمي إلى ذات النسيج بشكل صارخ على الصعيد الجغرافي واللغوي، وغيرها من خصائص المجتمع الصومالي.
في كتابه ” GODOB LA’AAN” يحاول الناقد والشاعر الصومالي حسين عبدي حلني الاطلاع على السجل التاريخي للمجتمع الصومالي، تناول مفهوم السلام، مستخدما نظرته الثاقبة، ومعرفته الواسعة للتراث الثقافي والأدبي للمجتمع الصومالي، وذلك من خلال الشعر الصومالي، وبأسلوب متفرد، وبناء عليها يجادل الرجل بأن المجتمع الصومالي كان يميل إلى السلام بطبيعته خلافا لما اتسم به مؤخرا، مضيفا إلى ذلك كان بارزا في الخطاب السائد الذي كان يدعوا إلى قيم مثل السلام، ونبذ العنف، وتوحيد الصفوف، والتآزر الاجتماعي.
يتعمق الكاتب حلني في عمق الثقافة والأدب الصومالي، وبحسب منظوره، ثمة دور بارز للشعر الصومالي في تجسيد الخطاب السلمي، باعتبار “الشعر” ذاكرة مليئة بالمعلومات التاريخية، ويقدم لنا كذلك صورة واضحة المعالم حيال الشعراء ونداءاتهم إلى التعايش والسلم الاجتماعي ومواقفهم الداعمة لتسوية النزاعات وحل الخلافات ومآسي الحروب.
يطرح الكاتب حسين حلني في مقدمة الكتاب سؤالا مركزيا باعتباره منطلقا مهما للدراسة ومشككاً في الوقت ذاته بالادعاءات التي تفند سلمية المجتمع الصومالي في تاريخه القديم والحاضر، ويتسائل كيف لم تندثر أمة لم تعرف إلا الحرب والعنف بكل أشكاله ولا تزال حية إلى اليوم؟ لابد أن ثمة شيء آخر، ثمة سلام نادى إليه الصومالي منذ القدم، وهو تساؤل سعى إليه الكاتب للإجابة عنه، مستغرقا تماما في البرهنة على تلك الفرضية أو العثور عليها نقشا في ذاكرة الأدب والفن الصومالي بكل أشكاله.
بين صحراء الجزيرة العربية وصوماليي الأوائل: تلاقح في الحياة والأدب
إن ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للسكان الصوماليين وأوضاع معيشتهم وظروف زمانهم ومكانهم، تتشابك خيوطها في كثير من الأحيان مع خيوط المجتمعات العربية في الجزيرة العربية، اجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، التي تشكلت وفقا لطبيعتها البيئية المتسمة بقساوة طبيعة الصحراء، وندرة المياه والنبات، وارتفاع درجات الحرارة، وجفاف الهواء، وقلة الرطوبة، واختلاف الضغط الجوي، الذي يجعل الجو مغبرا وترتفع فيه الأتربة والغبار، كما يصفه عبدعلي عبيد الشمري في كتابه “الدعوة إلى السلام من الشعر الجاهلي” ويستبعد انفلات طبيعة الإنسان العربي من تلك التضاريس البيئة التي يعيش فيها، وليس ذلك في الشكل، كسمرة البشرة، بل يتجاوز الأمر إلى الطبيعة النفسانية للإنسان العربي، وهو ما يفسر حدة الطبع، والصراحة، والميل الفج إلى الجدية.
لذات الأسباب، يعتقد حلني أن بيئة الإنسان الصومالي تشبه إلى حد كبير بيئة الجزيرة العربية، ونتيجة لهذه القاسية، التي يشح فيها الموارد، يصبح الغارات، والغزوات جزء لا يتجزأ من تركيبة الإنسان البدوي الصومالي، بالشكل الذي لا يكون ذلك مثيرا للغرابة، بل كان ذلك ملمحا ساطعا من ملامح الاقتصاد لدى البدوي الصومالي، وهو ما يتفق معه الشمري الذي يعتقد أن أهل البوادي العرب استولى حب القتال على نفوسهم حتى أصبح حالة عقلية مزمنة حتى إن بعضهم (القبائل) كان يمضي أياماً وليالي في المسير والسهر وتحمل المشاق لأجل أن يصلوا إلى مضارب قبيلة أخرى فيغيروا عليها بهدف النهب والحصول على المال.
ومع مرور الوقت، لم يعد مهمة العثور على الموارد ما يدفع البدوي الصومالي “الذين كان يعيش في بيئته قاسية الظروف بين تكلتلات بشرية حسب الفرز القبيلي” الى الإغارة على بعضهم البعض، ومحاربة بعضهم، بل أصبح الأمر نزعة إنسانية ينزع لها البدوي ، دون إدراك بالأمر،وأصبح ذلك تعريفا لهوية ذلك المجتمع بحيث يصعب على المرء أن ينتمي إليه دون ممارستها، وهو ما يفسرحالة القلق الدائم، وحالة الكر والفر، وانعدام الاستقرار التي يعيشها الإنسان الصومالي إما خائفا من غارة الأقوى، وطمعا في موارد الأضعف.
وسط هذه الصورة القاتمة عن تاريخ الإنسان الصومالي القديم الذي عاش بعيدا عن المدينة ونظام الدولة تتزامن أهمية دراسة الأدب الصومالي لاسيما الشعر من منظور بحثي جديد لنقد الصورة النمطية وطرح رؤية جدلية جديدة، ولطالما كان موقفي الشخصي تجاه الشعر الصومالي لا يحظى بالكثير من الإعجاب، كونه شعرا يستعرض التباهي بالبطش والاعتداء وقسوة الانتقام، وإذكاء الحروب والتفاخر ببطولاتها الدموية، بل كان عاملا بارزا “الشعر الحربي” يؤدي بالكثير من الأحيان الى إشعال أزمات اجتماعية مزمنة، غير أن وجهات نظر أخرى اعتمدت التركيز على دور الشعر الصومالي في تشكيل تراث لغوي يتميز بالعمق والجمالية والدقة في التعبير والفصاحة.
الأدب الصومالي: مبعوثا للسلام في زمن الحرب.
في مستهل الكتاب، يسبر الأديب أغوار التراث الصومالي، مستشرفا كيفية تشابك خيوط الحكايا لاسيما الأدب والشعر والفلكلور الشعبي بمفهوم السلام السامي، متناولا موضوعات مثل الشعر والأمثال والقصص المعبرة وكيفية تأثيرها على الحفاظ على السلام وتعزيز التعايش بين القبائل الصومالية المختلفة، كما يستعرض ببراعة كيف صاغ الشعراء الصوماليون من معانيهم أبياتًا ترنم بالوئام والألفة، متناولين بحروفهم إعادة نقش معالم حياة البيئة الإجتماعية برؤى وأفكار سلمية، وكيف رتبوا الكلمات الأنيقة لخلق وعي جديد يغذي بالوحدة الاجتماعية والتآلف والإستقرار.
كان الهدف الأساسي الذي سعى إليه الكاتب تحقيقه من خلال تأليفه الجديد كما أشار إليه في مقدمة الكتاب هو جمع الأشعار المتوفرة لتوثيق وتسجيل الإرث الثقافي الذي يحمل الحكمة ويعزز السلام في المجتمع الصومالي. كذلك يقدم الكاتب للقارئ فهما بسيطا للأشعار والأمثال التي تشكل جزءا لا يتجزأ من التراث الصومالي، سواء تلك التي احتوت أشعارا تغذي السلام بحد ذاته أوالتي تناولت حكايات تاريخية تعبر عن حكم وموروث أدبي تنعكس صورته بشكل جوهري في الخطاب الشعري الصومالي بهدف تخليد السلام الذي يُعد حجر الزاوية في بناء مجتمع مسالم ومتآلف.
يَضمُ الكتاب على 36 شعرا مختارا بعناية تناقش مفهوم السلام والسعي من خلال تحقيقه وفرضه. هذه الأشعار التي نظمها شعراء مشهورون في التاريخ الصومالي هي أشعار تنبثق من أزمان ومناطق صومالية مختلفة وتعالج إلى جانب السعي للسلام، قضايا مثل الظلم، والكبرياء، والخيانة، وغيرها من المواضيع التي تخلق الأزمات الإجتماعية وعدم الإستقرار.
يحمل الكتاب بين طياته، أسماء شعراء نجحوا في تسجيل أنفسهم على رأس قائمة الشعراء الصوماليين الكبار، حيث استطاعوا إيصال رسالتهم السامية بجمال فني رفيع، فكانت رسالتهم رسالة أدبية من حيث الجمالية والفنية، وإصلاحية تدعو إلى الخير والسلم، وجمعت بين صدق الانفعال وجودة الأداء ونبل الغاية، ومن بينهم الشاعر العملاق عبدالله معلم أحمد طوذان والشاعر إسماعيل علي ميري، والشاعر قمان بلحن يوسف، والشاعر محمد بلحن عور، والشاعر محمد محمود حرسي “سلان عربي”والشاعر عبدالله سلطان محمد ” تماعدي” والشاعر محمد جمعالي حايو، والشاعر راغي أوجاس ورفا، وآخرون خلدت أسمائهم في ذاكرة الشعر الصومالي.
تتناول أشعار هؤلاء الشعراء الموجودة في الكتاب مواضيع متنوعة تعكس الحالة الاجتماعية والثقافية للمجتمع الصومالي. وهي أشعار تنقسم إلى عدة أقسام: قسم منها ينتقد بشكل جذري الأفعال السلبية مثل الغطرسة والطائشية، وقسم آخر يرسم الصورة البشعة للحرب على خلفية أحداث تاريخية مهمة عاشها الشعب الصومالي، تلك الأحداث التي تضمنت الحروب وأعباءها وما نتج عنها من دمار وخراب، ويدعوا بشكل صريح إلى التخلي عن الحرب بالتنفير منها ومن ويلاتها ونتائجها ومساوئها، والقسم الثالث تشمل توجيهات وإرشادات تهدف إلى حقن الدماء وحفظ التماسك الإجتماعي إلى جانب التروي والتعقل والهدوء.
تأتي قصيدة السلام للشاعر عبد الله بدل عبدي قمان أولى قصائد شعرية متسلسلة في الكتاب، ويشير الكاتب الى أنه اختار هذا الشعر كونه يتناول موضوع السلام بشكل مباشر، بالإضافة إلى أنه يقدم بشكل جميل الفرق بين السلام والحرب، وُيعد عبد الله الذي لا يزال على قيد الحياة شاعرا نبيلا وداعية سلام بحسب رأي الكاتب، ويتميز بتفكير راق، ونزعة عميقة في شخصيته تميل الى السلم والإصلاح.
إلى جانب الشاعر عبد الله بدل عبدي قمان، يستلهم الكاتب حكمة ورؤية شعراء آخرين لم يقلوا شأنًا في تشكيل النسيج الثقافي والاجتماعي للصومال. خاصة بأشعارهم التي تناولت السلم والاصلاح، يتميز كل شاعر بأسلوبه الخاص ورؤيته العميقة التي تساهم في تعزيز رسالة السلام والوئام داخل المجتمع. هؤلاء الشعراء، بما يحملونه من تنوع في الأفكار والمواضيع، اعتمدوا في إظهار القوة الحقيقية للشعر كأداة للتعبير عن المعاناة والأمل، ومقاومة الحرب الى جانب النداء الى السلام من خلال تجسيد الحياة الاجتماعية والثقافية للصومال بلغة شاعرية رقيقة ومعبرة، يقدمون للقارئ فهما أعمق للديناميكيات الإنسانية والروابط التي كانت تجمع الصوماليين في أوقات السلم والحرب.
ينقل الكاتب عن هؤلاء الشعراء من خلال أعمالهم رسائل قوية حول أهمية التسامح والتفاهم والتآخي بين الناس، مؤكدين على أن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل حالة من الوجود تسمح للمجتمعات بالنمو والازدهار. في إحياء للشعر بكل تعقيداته وجمالياته وإمكاناته في أن يكون مبعوثا في إحلال السلام والتعايش السلمي.
في كتاب “GODOB LA’AAN”، لا يُعد الشعراء مجرد مرآة تعكس واقع المجتمع الصومالي، بل هم باعتبارهم بناة أمل يسعون إلى إعادة تشكيل هذا الواقع نحو مستقبل أفضل يسوده السلام والوئام. يشكل عملهم رابطا بين الماضي والحاضر، خاصة وأنهم يحملون إرثا ثقافيا وروحيا يعزز الهوية الصومالية ويدعو إلى الاعتزاز بها في سبيل بناء مجتمع متماسك ومسالم.
وفي خطابه لحفلة تدشين الكتاب في العاصمة الصومالية مقديشو، في 28 يوليو الماضي، ذكر الكاتب أن الانهيار الذي شهدته الدولة الصومالية في أواخر القرن العشرين والذي يُعد واحدا من أكثر الأمثلة إيلاما على تفكك البنية السياسية والاجتماعية لدولة معاصرة، بداية من الصراعات الداخلية الى التدخلات الخارجية التي أدت إلى فقدان الحكومة المركزية سيطرتها على البلاد مما أثر بشكل كبير على الأمن والاستقرار وأسفر عن أزمة إنسانية مروعة، ألقى الكاتب خطابه مجادلا بأن هذا الانهيار الكلي للدولة والمجتمع ترك إرهاقا ونفورا من الصراعات والنزاعات في سيكلوجية المجتمع، ما أجبر على الكيان الصومالي اللجوء الى المصالحة والبحث عن السلام حيث كان الأدب الصومالي بمختلف أشكاله من شعر ورواية ومسرح وأغنية ولوحات وقصص قصيرة، يشكل حضورا قويا في مؤتمرات المصالحة ومبادرات السلام التي انعقدت في بلدان اقليمية ودولية مختلفة، وكان عاملا مهما يساهم في مناشدة السلام والمصالحة بين الأطراف المتنازعة، ونجح في كسر الحواجز وبناء جسور التواصل بين أطراف النزاع.