في جنوب السودان ..هل يعود السلام المفقود بين شركاء الأمس وفرقاء اليوم
صفاء عزب
آخر تحديث: 26/01/2019
القاهرة- عندما اختار شعب جنوب السودان الإنفصال عن دولة السودان في الإستفتاء التاريخي الشهير ليعلن قيام دولته الجنوبية بمباركة دولية وأممية عام 2011، رحبت دول العالم بميلاد أحدث دولة واحترمت إرادة شعبها في الاستقلال على الرغم من المحاذير الكثيرة التي أثارت غضب ورفض كثير من المعارضين لهذا الإنفصال.
وتفاءل المؤيدون بهذه الخطوة على أمل إنهاء أسباب الصراع وإطفاء نيران الحرب المستعرة لسنوات، بعد تحقيق الاستقرار والسلام في هذه المنطقة الساخنة من شرق إفريقيا، وتلبية المطلب الأساسي الذي حارب شعب الجنوب طويلا ودفع ثمنا باهظا من أرواح أبنائه لأجل تحقيقه. إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهيه السفن، فسرعان ما اشتعل الصراع من جديد بين أبناء الجنوب لتدخل البلاد في حروب أهلية قضت على الأخضر واليابس، وقتلت آلاف الضحايا، وشردت الملايين، ودمرت الاقتصاد وزادت أعداد الفقراء بالملايين في دولة تحتضن ما يقرب من 70% من الثروات السودانية بما فيها البترول والأرض الخصبة والثروات الطبيعية التي تؤهلها لتكون في مصاف الدول الغنية.
لقد لعب الصراع السياسي بين قيادات الجنوب السوداني دورا سلبيا في تدهور أوضاع الشعب رغم امتلاكه لهذه الثروات، لذلك حرصت القوى الدولية والإقليمية على رأب الصدع بين أبناء الوطن وشهدت الفترات الماضية العديد من محادثات ومفاوضات السلام وكان آخرها اتفاق السلام الذي تم إبرامه في الربع الأخير من عام 2018. ولكن تثور المخاوف من جديد على مستقبل هذا الاتفاق خشية تجدد الصراعات والانقسامات الداخلية بين زعماء المعارضة ورئيس جنوب السودان، فهل يصمد اتفاق السلام ويستمر الوفاق بين الفرقاء والخصوم السياسيين في الجنوب؟
على الرغم من حداثة دولة جنوب السودان، إلا أن شعبها ليس حديث العهد بالمعاناة، حيث عانى لسنوات طويلة من ويلات الحروب والظلم ودفع ثمنا باهظا للصراعات السياسية وكان هو الخاسر الأكبر فيها، وحتى عندما حصل على الاستقلال، لم تنته معاناته. فبعد عامين من هذا الاستقلال تحول شركاء النضال إلى خصوم، وصار الرفقاء فرقاء بعد أن حققوا ما كانوا يتحدون من أجله في مواجهة السودان.
وبداية معاناة شعب جنوب السودان تعود لعام 1983 عندما وقع اختيار الرئيس السوداني جعفر نميري على عقيد في جيشه يدعى “جون قرنق” ليرسله في مهمة حساسة وخطيرة، حيث تولى قيادة قوات عسكرية سودانية متجهة إلى الجنوب للقضاء على تمرد عدد من الجنود بالمنطقة. لقد كانت مهمة محفوفة بالمخاطر ولم يدر بعقل النميري أن قائده الذي أرسله لإخماد تمرد الجنوبيين، سينضم لصفوف المتمردين الذين ينتمي أغلبهم إلى قبيلته “الدينكا”، ويصبح بعدها زعيما للحركة الشعبية لتحرير السودان، حتى تم إبرام اتفاق السلام عام 2005 للقضاء على الحرب الدائرة بين الشمال والجنوب، وعين قرنق نائبا أول للرئيس السوداني حسما لصراع آخر بينه وبين رفيق النضال سيلفا كير عام 2004، وذلك بعد الاتفاق على أن يتم استفتاء أبناء الجنوب على الانفصال عن الشمال فيما بعد. المثير في الأمر أن قرنق كان يميل إلى عدم الانفصال مع توسيع صلاحيات الادارة المحلية، وهو سبب الخلاف مع كير الذي كان يسعى للإنفصال التام عن السودان.
وتسبب هذا الخلاف في انقسامات داخل أبناء قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها الزعيمان، اللذان تبادلا الإتهامات قبل أن يختفي قرنق من المشهد للأبد بمقتله في حادث تحطم مروحيته بعد اصطدامها بأحد الجبال خلال عودته من أوغندا وذلك في الثلاثين من يونيو عام 2005. وبعد ستة أشهر صعد نجم سيلفا كير بقيادته للحركة الشعبية لتحرير السودان قبل أن يصبح رئيسا لجنوب السودان وتعيينه مشار نائبا له.
لم تمر سوى شهور قليلة بعد استقلال الجنوب عن الشمال، ليطفو خلاف جديد في صفوف الجنوبيين على السطح بسبب الصراع السياسي بين كير ومشار. وأدى ذلك إلى حدوث انشقاقات إثنية وسياسية في صفوف الجياش نتيجة النزاع على السلطة، وهو ما انتهى بإقالة كير لمشار لتشتعل الحروب في شتى الأنحاء وتتفجر أكبر أزمة إنسانية في البلاد تسببت في تشريد ما يقرب من 3 ملايين مواطن إلى جانب مقتل الآلاف وتعرض ما يقرب من ثلث سكان البلاد للمجاعة لتدهور الأحوال المعيشية. بينما اتجه “مشار” إلى إثيوبيا ومنطقة أعالي النيل للعيش بينهما ليستأنف معركته من هناك ولكن هذه المرة ضد رفيقه في النضال.
ولا شك أن هذه الصراعات قد انعكست سلبا وبشكل مدمر على مناحي الحياة، حيث انهارت العملة واستفحل التضخم ولحق الدمار لصناعة النفط ودخلت البلاد في أزمة من أخطر الأزمات الاقتصادية بتوابعها الإنسانية.
وعلى الرغم من توقيع اتفاق جديد للسلام عام 2015 بين سلفاكير ورياك مشار الذي عاد للبلاد وتولى مجددا منصب نائب الرئيس. وبموجب هذا الاتفاق يتم تشكيل برلمان انتقالي جديد، وانتخاب رئيسه من كتلة نواب “إقليم الإستوائية”، جنوبي البلاد، وإضافة إلى 50 نائبا يمثلون المعارضة المسلحة، و17 عضوا عن الأحزاب السياسية الأخرى، ونائب واحد من مجموعة المعتقلين السياسيين السابقين، ليرتفع العدد الإجمالي لنواب المجلس الانتقالي من332 إلى 400 عضوا.
إلا أن استمرار الصراع الخفي أدى إلى عودة الاضطرابات قبل جني ثمار هذا الاتفاق، حيث تسببت قرارات مصيرية للرئيس كير في إثارة الغضب القبلي، منها قرار زيادة عدد عدد الولايات في البلاد من 10 إلى 28 ولاية، الأمر الذي اعتبرته المعارضة اختراقاً صريحاً لاتفاقية السلام، خاصة مع ما يترتب على ذلك من إعادة توزيع مناطق حقول النفط وتركز تبعيتها في أيدي قبيلة “الدينكا”- التي ينتمي إليها كير- في “أعالي النيل”، و”الوحدة”.
على الصعيد الدولي أثارت الحروب الأهلية وتدهور الأوضاع في جنوب السودان اهتمام المجتمع الدولي، واعتمد مجلس الأمن الدولي قرارًا بتمديد العقوبات المفروضة على جنوب السودان في القرار الدولي رقم 2290 والذي يشمل كلا من الحكومة والمعارضة بسبب فشلهما في تحقيق السلام.
كما اتخذت دول ال”إيغاد” أو الهيئة الحكومية للتنمية قرارات ذات صلة بهذه الأزمة، كان على رأسها إرسال قوات حماية إقليمية للحفاظ على الأمن في جنوب السودان، بالإضافة إلى قوات الأمم المتحدة.
كما حذرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من خطورة الأوضاع داخل جنوب السودان من جراء هذه الصراعات، وكشفت عن فرار60 ألف شخص في المواجهات الأخيرة وحدها، وأن ما يقرب من 900 ألف مواطن، غادروا بلادهم منذ اندلاع الحرب الأهلية، في ديسمبر 2013. وبطبيعة الحال تأتي النساء والأطفال على قائمة هؤلاء اللاجئين الذين يعانون أيضا من الأمراض بسبب سوء التغذية. وازدادت الأوضاع سوءا في ظل انتشار الفساد وأبشع أنواع الانتهاكات والجرائم ضد أبناء جنوب السودان الذين يعدون أقصر شعوب العالم عمرا بسبب هذه المعاناة.
أمام هذا الوضع المأساوي، كانت الحاجة ملحة لاستعادة السلام المفقود والإصرار على تحقيقه رغم المحاولات المتكررة الفاشلة. وشهد شهر سبتمبر الماضي عام 2018 توقيع اتفاق سلام جديد بين الأطراف المتنازعة في جنوب السودان بحضور رؤساء دول الإيغاد بعد بذلهم جهودا كبيرة للتقريب بين أطراف النزاع والوصول إلى اتفاق بتكوين لجنة تمهيدية للمرحلة الانتقالية ممثلة للحكومة والمعارضة.
وشملت ترتيبات الفترة ما قبل الانتقالية، إخلاء كل المواقع المدنية بجنوب السودان من كل المظاهر العسكرية، والفصل بين القوات، وتجميع الأسلحة طويلة وقصيرة المدى.
ومع ذلك لا زالت حالة التوتر بين الحكومة والمعارضة قائمة بعد أن وجهت الأخيرة اتهاما لقوات كير بمهاجمة قواتها في مواقع تابعة لها، وذلك خلال الفترة بين توقيع الاتفاق وتصديق جنوب السودان عليها. وقد تأخر برلمان جنوب السودان في التصديق عليه لمدة تجاوزت شهرا، بينما استغرقت قوى المعارضة أسبوعا واحدا للتصديق.
ومن المتوقع أن يستمر التوتر مع وجود تنظيمات مسلحة معارضة أخرى رافضة لهذا الاتفاق مثل حركة جنوب السودان الوطنية للتغيير بقيادة فاكيندي أونفو، والحركة الوطنية الديمقراطية بقيادة إيمانويل أبان، وجبهة الخلاص الوطني المسلحة بزعامة توماس شريلو، والتحالف الجمهوري الديمقراطي بقيادة قاتويج ثيج. ومن جانب آخر طالبت “حركة الشعب الديمقراطية” المسلحة المعارضة بقيادة حكيم داريو، المشاركة في المفاوضات الخاصة باتفاق السلام وتضمين مقترحاتها ضمن القوى المعارضة من أجل تحقيق السلام. واعتبر داريو أن الاتفاق الذي تم مؤخرا لتحقيق السلام بين الحكومة والمعارضة لا يخدم مصلحة شعب جنوب السودان، وإنما يصب في مصلحة الرئيس كير و طرف واحد فقط من أطراف المعارضة وهو رياك مشار.
يضاف إلى ذلك البطء الشديد المتعلق بتأخير تشكيل لجنة الحدود واحتمالات تأثيرها سلبا على عملية السلام. حيث كان يتعين على لجنة الحدود المستقلة النظر في عدد ولايات جمهورية جنوب السودان وحدودها وتشكيل وإعادة هيكلة مجلس الولايات وتقديم توصيات بشأنها خلال أسبوعين، وهو ما لم يحدث رغم مرور ما يقرب من نصف الفترة الانتقالية والمقررة بثمانية أشهر. وعلى ذلك يجب على اللجنة التابعة للإيغاد الإسراع في حل هذه القضية الشائكة والمثيرة لغضب المعارضة لضمان استمرار السلام، سيما وأن محادثات السلام شهدت رفض جماعات معارضة للنظام الفيدرالي الذي قرره الرئيس سيلفا كير والذي يجعل جنوب السودان 32 ولاية، ويعتبرونه تحيزا لقبيلة الدينكا التي ينتمي إليها كير.
إن جنوب السودان بحاجة ملحة لنجاح واستمرار اتفاق السلام هذه المرة وعدم تعريضه للفشل كما حدث في المرات السابقة، حتى يعود الأمن والاستقرار للبلاد ويتفرغ أهلها للبناء والتنمية بدلا من الصراع والقتال. كما أن إدارة مواردها وثرواتها المتنوعة بشكل مجد إقتصاديا يتطلب توفير أجواء مستقرة صالحة للعمل والإنتاج، إضافة إلى مسيرة طويلة لمكافحة الفساد الذي يطارد مختلف دول القارة الإفريقية.
إن على فرقاء الجنوب أن يتحدوا ليعودوا رفقاء وشركاء في بناء الوطن، ولكن هذا لن يحدث إلا في إطار بناء الثقة المتبادلة والعدالة وتوزيع الأدوار بين مختلف القوى وعدم الاستئثار بالقرار، ويأتي دور أبناء القارة السمراء من الجيران وأعضاء الإيغاد والمفوضية الإفريقية بشكل عام لاحتضان هذا الكيان الوليد الذي اختار الإستقلال بعيدا عن الأم، والعمل الدؤوب من أجل إتمام تنفيذ كافة بنود اتفاق السلام الأخير والحيلولة دون فشله من جديد.