علاقات الصين ودول القرن الإفريقي في الميزان
الصومال الجديد
آخر تحديث: 29/11/2022
القاهرة: صفاء عزب
تحركات صينية مكثفة ونشاطات سياسية ملحوظة شهدتها منطقة القرن الإفريقي مؤخرا لا سيما خلال عام 2022 بما تضمنته من مواقف حيوية اتخذتها الصين بشكل قوي يمثل تغييرا في سياستها السابقة والقديمة التي كانت تعتمد على الحيادية وعدم التدخل والاكتفاء بالشراكات التجارية لسنوات طويلة. ولا شك أن منافستها مع خصمها السياسي التقليدي واللدود المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية تشعل رغبتها المتقدة في تكريس نفوذها بالمنطقة الحيوية من العالم. فبعد أن عينت واشنطن ديفيد ساترفيلد مبعوثا لها في المنطقة، سارعت بكين بتعيين، الدبلوماسي المخضرم شيويه بينغ، وسفيرها السابق لدى غينيا الجديدة، مبعوثا خاصا لشؤون القرن الإفريقي، والذي قام بدوره ممثلا لبلاده بعرض الوساطة لأول مرة لتحقيق السلام في المنطقة لتسجل الصين أول موقف اتخذته لإعلان التدخل السياسي بشكل صريح تجاه قضية محددة.
جاءت هذه الخطوة الصينية تتويجا لعلاقة تجارية قوية جمعتها بالقارة السمراء على مدار سنوات طويلة، حيث نجحت الصين في انتزاع الصدارة من منافسيها بالمنطقة لتصبح الشريك التجاري الأول لإفريقيا على مدار 12 سنة متواصلة حرصت خلالها على الحفاظ على مكانتها وتدعيم مواقفها بين الأفارقة لخلق فرصها في تعظيم استفادتها من الكنوز والثروات الإفريقية.
على مدار السنوات الماضية اعتمدت الصين على أساليب اقتصادية لتحقيق التقارب والتواجد في المنطقة، وكان على رأسها تقديم القروض وضخ الاستثمارات والمشاركة بمشروعات حيوية كبرى. وهو ما تؤكده الإحصائيات التي تشير إلى أن الصين تستحوذ على ثلث إجمالي الديون الإفريقية الخارجية والتي بلغت 400 مليار دولار. ونجح التنين الآسيوي في استغلال الأزمات الاقتصادية التي ضربت إفريقيا ضمن قارات العالم التي تأثرت بجائحة كورونا، لتصبح الصين أكبر وأول دائن للمنطقة. كما استغلت وباء كورونا في إحكام قبضتها على الدول التي تأثرت اقتصادياتها بأزمات توفير الخدمات الصحية، وسعت إلى توسيع حجم استثماراتها فيها وتحفيز التجارة المشتركة معها وخلق أسواق مهولة للترويج لمنتجاتها، بشكل عاد على الاقتصاد الصيني بفوائد عظيمة.
في الوقت الذي تراجعت فيه اقتصاديات عالمية كبرى، استطاع الاقتصاد الصيني تعظيم مكاسبه في القارة السمراء من خلال ضخ استثمارات ضخمة بلغت مليار دولار في عام 2020، بزيادة 9.5 في المئة على أساس سنوي. وبلغ الاستثمار المباشر غير المالي 2.66 مليار دولار، وارتفع مؤشر التجارة الثنائية بشكل كبير بنسبة 40.5 في المئة ليصل إلى 139.1 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021 . كما لجأت الصين إلى إنشاء مناطق تعاون اقتصادي وتجاري مع الأفارقة بلغ عددها 25 منطقة داخل 16 دولة إفريقية باستثمارات إجمالية قدرها 7.35 مليار دولار، وبلغت القيمة التعاقدية لمشاريع البنية التحتية الصينية 67.9 مليار دولار.
من جانب آخر، لجأت الصين بشكل تدريجى إلى المنظمات الإقليمية الإفريقية لفتح آفاق التعاون فى القضايا الأمنية، منها المشاركة الصينية فى عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فى إفريقيا، خاصة فى القرن الإفريقى ودعم إفريقيا فى مجالات اللوجستيات لمواصلة مشاركتها النشطة فى عملية إزالة الألغام وتقديم المساعدة المالية والمادية، بالإضافة إلى التدريب ذى الصلة بعمليات مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقى وكلها خطوات لتكريس النفوذ الصيني بالمنطقة.
هذا وترتبط الصين بعلاقات وطيدة مع قارة إفريقيا على مدار سنوات طويلة استهدفت منها تعزيز التعاون وأواصر الترابط واتخذت من السودان مدخلا للشعوب السمراء منذ عقود طويلة، قبل أن تتطور علاقاتها بباقي دول القارة، وتضاعف حجم التبادل التجاري معها كل ثلاثة أعوام في إطار مظلة منتدى التعاون الصيني الأفريقي، “فوكاك”. وكان لدول القرن الإفريقي نصيب وافر من هذا التعاون من خلال الاستثمارات والدعم الاقتصادي والسياسي.
تولي الصين منطقة القرن الإفريقي اهتماما خاصا وزائدا مقارنة بغيره من دول القارة السمراء، ويرجع ذلك لعدة أسباب أهمها الموقع الجغرافي الحساس والذي منح المنطقة أهمية استراتيجية خطيرة تحرص الدول الكبرى على الاستفادة منها، وعندما تراجعت الدول الغربية في فترة من الفترات عن ذلك، سارعت الصين لاستغلال الأمر ووضع موطئ قدم لها قبل أن تحقق تواجدا مكثفا بالمنطقة خلال سنوات معدودة. ويرجع ذلك إلى أن القرن الإفريقى يقع على طول طريق تجارى بحرى مهم يربط بين أوروبا وآسيا عن طريق قناة السويس، إضافة إلى الإشراف على مضيق باب المندب الذى يكتسب أهمية تجارية بالغة نظرا لمرور نحو 12% من حجم التجارة العالمية من خلاله. كما يتدفق عبره أكثر من 4.8 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات البترولية المكررة بجانب إمدادات أخرى. وبناء عليه فإن منطقة القرن الإفريقي تعتبر البوابة المشرفة على التجارة الصينية، لذلك كان من الطبيعي أن تسعى الصين لحماية مصالحها من خلال وضع قواعد عسكرية تابعة لها بالمنطقة في ظل تنافس شديد مع الدول الكبرى على السيطرة على هذه المنطقة الحيوية. ونجحت الصين في وضع قاعدة عسكرية في جيبوتي تشكل نقطة ارتكاز مهمة لقواتها البحرية بهدف حماية وتأمين هذا الجزء الكبير من حجم تجارتها الضخم المار بالمنطقة.
وتأتي الأهمية الاقتصادية للقرن الإفريقي أحد الدوافع الكبرى للتحركات الصينية النشطة بالمنطقة، حيث تزخر بالثروات الثمينة والموارد الطبيعية وعلى رأسها النفط والغاز والمعادن المهمة كالذهب والحديد والماس والمايكا واليورانيوم، إضافة إلى الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة والثروات الحيوانية والسمكية والغابات. لذلك حرصت الصين على تعزيز نشاطها بالقرن الإفريقي بزيادة منحها للقروض، بالتوازي مع استثماراتها في مجالات التنقيب عن البترول والمعادن، في إثيوبيا والسودان وجنوبه.
كما كانت مشروعات البنية التحتية بوابة واسعة للاستثمارات الصينية بالمنطقة، حيث ركزت الصين على الموانئ الجوية والبحرية، فشيدت مطار أديس أبابا الجديد الذي أصبح أكبر مطار في إفريقيا، وعملت على بناء مطار دولي جديد في الخرطوم. وسعت عمليا لربط هذا الإقليم عبر السكك الحديدية، حيث بنت خطا للسكك الحديدية للربط بين جيبوتي وإثيوبيا الدولة الحبيسة، بجانب اهتمامها ببناء عدد من الطرق البرية داخل دول القرن الإفريقي.
وتعتبر إثيوبيا من أكثر دول القرن الإفريقي شراكة مع الصين حيث تتخطى المشروعات الاستثمارية الصينية في البلاد ما يقرب من 1000 مشروع بتكلفة تتجاوز 14 مليار دولار، من أبرزها “المجمع الصناعي” الذي بنته في منطقة “هواسا” جنوب العاصمة أديس أبابا. كما تستحوذ الصين على أكثر من 50% من الديون الخارجية لأديس أبابا حيث بلغت القروض الصينية لإثيوبيا خلال الفترة من عام 2000 و 2019 ما يقرب من 13.729 مليار دولار. كما تعد إثيوبيا نقطة ارتكاز مهمة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث يوجد حاليا حوالى 400 مشروع بناء وتصنيع صينى فى إثيوبيا، تقدر قيمتها بأكثر من 4 مليارات دولار. وفي جيبوتي أقامت بكين، أول قاعدة بحرية خارجية لها بقوام حوالي 10 آلاف جندي.
وفي الصومال برز البعد الأمني والعسكري في تعاونه مع الصين التي تسهم في دعم قوات حفظ السلام الإفريقية الموجودة في الصومال وتزويدها بمعدات عسكرية متطورة للحفاظ على الأمن والاستقرار، كما تحرص الصين كذلك على مكافحة القرصنة في منطقة شرق إفريقيا ومنها الصومال.وتعمل الصين على رفع قدرات المؤسسات الأمنية الصومالية، وهو ما اتضح جليا في قيام الصين بتزويد الحكومة الصومالية بمعدات عسكرية في مارس 2022، لمساعدتها في حربها ضد الجماعات الإرهابية. وبطبيعة الحال أنه كلما تحسنت الأوضاع الأمنية بالصومال كان ذلك مشجعا للصين نحو مزيد من الاستثمارات فيه، وكانت هناك لقاءات متنوعة بين مسؤولي البلدين للتباحث حول سبل تطوير التعاون بما فيها مجال الطيران المدني، حيث يتوقع اتخاذ الصين لخطوات مهمة في تطوير هيئة الطيران المدني الصومالية .
وكان وزير الخارجية الصيني وانغ يي، قد زار عدة دول في منطقة القرن الإفريقي بداية العام، منها إريتريا وكينيا وجزر القمر، وطرح خلال زيارته فكرة “التنمية السلمية للقرن الإفريقي”. وهو ما كان مؤشرا قويا على التطور الجديد في الموقف الصيني الحيادي نحو دور أكثر فاعلية بالقرن الإفريقي والقارة السمراء دفاعا عن مصالحها وحماية لها. وفي هذا الاطار جاء إعلان المبعوث الصيني الخاص للقرن الأفريقي شيويه بينغ، عزم بلاده رعاية «أول مؤتمر سلام »، في محاولة لتسوية الصراعات بالمنطقة ولعب دور أكبر. وكشف المبعوث الخاص خلال زيارته لإثيوبيا، أن الصين تريد دعم دول القرن الإفريقي لمواجهة تحديات الأمن والتنمية.
لا شك أن الصين تتمتع بنفوذ كبير في المنطقة وتسعى لتحقيق المزيد ودعم موقفها بما يخدم مصالحها، وكانت الحكومة الصينية قد تقدمت بمقترح إلى دول القرن الإفريقي، يقضي بتشكيل منظمة تحت مسمى اتحاد دول القرن الأفريقي. ويهدف المشروع إلى قيام اتحاد يعمل على تعزيز التعاون، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، وهو تطور مهم يعكس النشاط الصيني الكبير بالمنطقة.
ومع ذلك فإن هناك محاذير كبيرة يجب الانتباه إليها حيث كشفت تقارير لجهات غربية عن وجود مخاطر خاصة فيما يتعلق بسياسة فخ الديون التي اتهم بها الصين في تعاملاتها مع الأفارقة، وذلك للتخوف على الأصول الإفريقية التي يمكن أن تضيع عند العجز عن تسديد الديون، وهو ما تكشفه التجربة الكينية مع الصين وما أثمرت عنه من ديون كبيرة خنقت الكينيين وهددت مشروعاتهم الوطنية. كما توجد واقعة أخرى في أوغندا حيث ذكرت وسائل الإعلام المحلية الأوغندية العام الماضي أن الحكومة الأوغندية تسعى لتعديل اتفاقية قرض صيني لتجنب فقدان السيطرة على المطار الدولي الوحيد في البلاد. كما توجه انتقادات للصين بأنها تسعى لتكوين علاقات اقتصادية مع الأفارقة بما يحقق لها أرباحا على حساب الاقتصاديات الإفريقية، خاصة في ظل خلل الميزان التجاري لصالح الصين.
ولا شك أن فتح الأبواب الإفريقية للصين أمر ضروري لأنها نافذة استثمارية مهمة للشعوب الإفريقية، كما أنها تسهم في فتح آفاق اقتصادية كبرى من خلال ضخ أموالها في مشروعات حيوية ضخمة، لها مردودات عظيمة.
ولكن لا بد أن يكون ذلك مصحوبا بالحذر والدقة في اتفاقيات التعاون بما يضمن حقوق الأفارقة ويحفظ أصولهم الوطنية.