سد النهضة حلم إثيوبي مدعم بمخطط غربي ومرهون بتحديات فنية وسياسية
صفاء عزب
آخر تحديث: 17/01/2019
القاهرة- تعد مشروعات إقامة السدود على الأنهار من المشروعات الكبرى التي تحظى باهتمام دولي كبير سواء من الدولة صاحبة المشروع أو الأطراف الدولية الأخرى، لما لها من أهمية اقتصادية كبرى خاصة بالنسبة للمشروعات التنموية. ولكن عندما تكون هذه المشروعات متعددة الأطراف أو ممتدة التأثير على أطراف دولية أخرى مشتركة في نفس النهر، فإنها تكون مصحوبة بجدل واسع خاصة مع وجود احتمالات لتأثيرات سلبية على الآخرين.
ويعتبر سد النهضة الإثيوبي أو السد الكبير كما يسميه الإثيوبيون من بين هذه المشروعات التنموية الضخمة والمثيرة للجدل في نفس الوقت. وقد أعلنت إثيوبيا عن عزمها بناء سد النهضة والبدء فيه في النصف الأول من عام 2011 وهي الفترة التي واكبت أحداث ثورة يناير المصرية التي أطاحت بحكم الرئيس مبارك وما أعقبها من اضطرابات سياسية وأمنية داخل مصر. وقد اختار الخبراء منطقة شديدة الانحدار بالقرب من الحدود الإثيوبية السودانية لإقامة السد وهي منطقة بني شانغول، والتي تبعد حوالي 900 كيلو متر شمالي غرب العاصمة أديس أبابا. وتهدف إثيوبيا إلى إنتاج 6000 ميجاوات من الطاقة الكهربائية من وراء إنشاء هذا السد الضخم الذي سيكون الأكبر في إفريقيا، وسابع أكبر سد في العالم، وذلك بتكلفة تقترب من الخمسة مليارات دولار.
ومنذ اللحظات الأولى لإعلان إثيوبيا عن عزمها لبناء سد النهضة، لم يتوقف الجدل والتصريحات المتضاربة من كافة الأطراف المعنية بمياه نهر النيل، والتي تعكس حجم المخاوف من الآثار المحتملة والمترتبة على إقامة السد من احتمالات تعطيش لبعض الشعوب وخاصة المصريين بحكم تواجدهم في دولة المصب، أو التخوف من حدوث كوارث مائية في حالة إصابة السد بأي خطر، وهي المخاوف التي ازدادت بعد ما تردد عن وجود عيوب فنية في جسد سد النهضة وظهور تقارير فنية أجنبية تؤكد هذه المخاوف.
وقد أصاب الإعلان عن بناء هذا السد، المصريين بصدمة كبيرة وأثار مخاوف كبيرة على مستقبلهم المائي مع احتمالات تناقص حصتهم السنوية من مياه نهر النيل والتي تقدر حاليا بـ 55.5 مليار متر مكعب، خاصة في ظل عمليات توسيع سد النهضة ليستوعب تخزين 74 مليار متر مكعب من المياه. وقد انعكس ذلك على العلاقات المصرية الإثيوبية وتسبب في تعكير صفوها من فترة لأخرى نتيجة لعدم استقرارها وتأثرها بسير المفاوضات الدائرة بين دول حوض نهر النيل ذات الصلة بهذا الأمر، بين شد وجذب وتصريحات ساخنة متبادلة من الطرفين. وعلى الرغم من قيام رؤساء الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا، بتوقيع اتفاق مبادئ حول مشاركة نهر النيل وبناء سد النهضة في مارس 2015، إلا أن ذلك لم يوقف الجدل المثار حول هذا المشروع حتى لحظة كتابة هذه السطور خاصة من الجانب المصري الذي يعد الأكثر تضررا في حالة تأكد مخاوفه.
لقد تعرض مشروع سد النهضة في إثيوبيا لانتقادات كثيرة من جهات مصرية وعربية منها وزارة الموارد المائية والمنتدى العربي للمياه، وجامعة الدول العربية، حيث اعتبروه مشروعا غير مطلوب مع كثرة السدود المقامة على الأنهار المتعددة التي تحتضنها إثيوبيا. وقد كشف الدكتور محمود أبو زيد رئيس المجلس العربى للمياه ووزير الري المصري الأسبق عن قيام إثيوبيا بإنشاء 15 سدا مشيرا إلى أنها لم تتشاور مع دول المصب المجاورة قبل إنشاء هذه السدود، وهو ما اعتبره متعارضا مع الأعراف والقوانين الدولية لإدارة الأنهار الدولية المشتركة وقواعد القانون الدولى، مما يعود بالضرر على دول المصب.
ومن بين الانتقادات ضد سد النهضة أن إثيوبيا ليست في حاجة لهذا السد بحسب ما ورد في جلسة المنتدى الرابع للمياه، حيث ذكر الدكتور أبو زيد أن إثيوبيا بنت 15 سدا على الأنهار المشتركة بينها وبين دول الجوار. حيث توجد 4 سدود على النيل الأزرق المشترك مباشرة مع السودان ثم مصر لتوليد 647 ميجاوات، وسد خامس على أعالى نهر السوباط المشترك مباشرة مع جنوب السودان، وسد سادس على أعالى نهر عطبرة المشترك مباشرة مع إريتريا ينتج 300 ميجاوات. بالإضافة إلى 4 سدود على نهر الأواش المشترك مع جيبوتي لتوليد 124 ميجاوات، و3 سدود على نهر أومو المشترك مع كينيا لتوليد 2475 ميجاوات، وسدين على نهر شبيلى المشترك مع الصومال لتوليد 150 ميجاوات!!
لذلك يرى المعارضون لبناء سد النهضة أنه سيضر بمصر والسودان في الوقت الذي لا تحتاج فيه إثيوبيا إلى ال 6000 ميجاوات المخطط توليدها منه، سيما وأن هناك سدين آخرين على نهر أومو لتوليد 1500 ميجاوات، و600 ميجاوات لتوليد 2100 ميجاوات، واللذين يحتمل أن تكون لهما أيضا آثار ضارة بكينيا.
وتعتبر إثيوبيا من أغنى الدول الإفريقية مائيا بعد الكونغو الديمقراطية، لما تحتويه أراضيها من مخزون كبير من المياه الجوفية بالإضافة إلى أنهار تبلغ 22 نهرا ينبع معظمها من أراضيها وتمتد عبر الحدود إلى دول أخرى، الأمر الذي يتسبب في خلق تشابكات مائية بين هذه الدول، ويثير الجدل الواسع حول سد النهضة الكبير.
يذكر أن هناك خلفيات تاريخية بعيدة الجذور الخلاف والجدل المثار حول سد النهضة، ترجع للعام 1964 عندما أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية بعثة لدراسة إقامة سدود على النيل الأزرق، وأعقبها دراسات تالية لمكاتب استشارية فرنسية وكندية وهولندية تأكيدا على الاهتمام الدولي بهذه المشروعات.
إلا أن اتفاقية عنتيبي 2010 تعد محطة جوهرية في تعميق أزمة بناء السد الإثيوبي الكبير، نظرا لأنها تعيد تقسيم مياه النيل بين دول حوضه بشكل مغاير لما نص عليه اتفاق عام 1929 والذي تمت مراجعته عام 1959 وبموجبه تحصل مصر على 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويًا بينما يبلغ نصيب السودان 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل. لذلك رفضت مصر والسودان التوقيع على اتفاقية عنتيبي، ووقع عليها ممثلو إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا بعد مفاوضات استمرت 10 سنوات، ولم توقع عليها كينيا ، ولم يحضر كل من الكونغو الديمقراطية ولا بوروندي. ويشير ذلك إلى عدم وجود اتفاق كامل على هذه الاتفاقية بسبب المخاوف المتعلقة بنصيب كل دولة من مياه النهر.
ويلاحظ أن الإعلان رسميا عن بدء مشروع سد النهضة جاء بعد عام واحد من هذه الإتفاقية، وسط ردود أفعال مختلفة. وعلى الرغم من توقيع مصر والسودان وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة، فلا زالت إثيوبيا تنتظر ردودا من مصر بخصوص الدراسات الفنية المتعلقة بحماية الحصص المائية وسلامة جسم السد، حيث توجد خلافات بشأن تقرير فني أصدره مكتب استشاري فرنسي، وأعدته الشركتان الفرنسيتان (بى آر إل) و(أرتيليا) المكلفتان من قبل الدول الثلاث بتنفيذ دراسات تأثيرات سد النهضة.
ولا يقتصر الجدل حول سد النهضة على صعيد دول حوض النيل المشاركين إثيوبيا في أطول أنهار العالم، حيث تشهد الأجواء الإثيوبية نقاشات ساخنة حول المشاكل والتعقيدات التي تكتنف هذا الموضوع باعتباره مشروعا قوميا بالنسبة لكل الإثيوبيين، خاصة بعد الإعلان عن تأجيل إتمامه لأربعة سنوات أخرى.
وثارت التساؤلات داخل إثيوبيا عن سبب هذا التأخير، و مصير الأموال التي جُمعت من الشعب لأجل بناء هذا السد. وشهد البرلمان الإثيوبي جلسة نقاشية عاصفة مع وزير المياه والمجلس الوطني لتنسيق المشاركة العامة لدعم سد النهضة، تم خلالها توجيه تساؤلات مهمة عن نتائج المشاورات مع مصر والسودان بخصوص السد، وتفاصيل آخر لقاء مع مديرمشروع سد النهضة سمنجاو بقلي قبل مصرعه بيومين. كما وجه البرلمان الإثيوبي لوما للقائمين على مشروع سد النهضة لاختيار شركة مقاولة عديمة الخبرة- ويقصد بها ميتك التي تم القبض مؤخرا على رئيسها بتهمة الفساد-، وأعرب عن عدم ثقته في جودة ومتانة جسد السد. ولاشك أنها نقاط تثير الجدل والقلق ليس داخليا فقط ، بل خارجيا أيضا خاصة وأن السد أقرب للحدود السودانية ويمكن أن يعرض السودان ومصر لكوارث مائية في حالة حدوث أي إصابة في السد الإثيوبي من جراء كمية المياه الضخمة المخزنة فيه والتي يمكن أن تغرق هذه الدول.
كما أن الغموض الذي اكتنف حادثة مقتل مدير مشروع السد سمنجاو بقلي، (53 عاما) في سيارته وسط العاصمة أديس أبابا، يثير القلق على احتمال ارتباط تلك الجريمة بكواليس خطيرة ذات صلة بعملية بناء سد النهضة.
كما تبدو هناك مشاكل فنية تفاجئ مهندسي السد من فترة لأخرى، كانت أيضا مثار نقاش ساخن على الصعيد الداخلي في إثيوبيا وكان رد المسؤولين بشأنها أكثر إثارة للقلق، حيث قال وزير المياه والري المهندس سلشي بقلى خلال تقديمه للبرلمان تقريرا حول وضع بناء السد، أن العقد الذي أجرته الحكومة مع شركة ميتيك للمقاولات كان مع شركة لا تمتلك الخبرة ولا المعرفة!، وأن خطة إنهاء بناء مثل هذا المشروع خلال أربعة سنوات لم تكن خطة حقيقية وموفقة! وكشف الوزير الإثيوبي عن سر تأخير السد لعدة سنوات أخرى، وأرجعه إلى اكتشاف وادي عميق خلال البناء.
كما صاحب عملية بناء السد تعديلات جوهرية قامت بها مجموعة من المكاتب الاستشارية النرويجية (Consortium) ، بالتوازي مع أعمال الشركة الإيطالية “ساليني” صاحبة التصميمات الابتدائية لسد النهضة. حيث اضطرت هذه المجموعة لتعديل مخطط السدود الإثيوبية نتيجة للزيادة الهائلة والمفاجئة فى سعة سد النهضة.
وبعد سنوات من العمل وصل مستوى الأداء بالسد لمرحلة جيدة بحسب تصريحات كفلي هورو مدير مشروع سد النهضة، والذي أكد أنه لا زال يحتاج إلى 4 سنوات أخرى لاستكمال البناء. وقد بلغ مستوى الأداء في الأعمال المدنية لبناء سد النهضة أكثر من 80% بينما وصل مستوى أدء الأعمال الكهروميكانيكية 25 %.
وعلى الرغم من أن إثيوبيا عزمت على بناء السد بأموال وطنية، إلا أنها تعتمد على قروض دولية من الصين والبنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي. كما تشارك خبرات فنية عالمية في تشييد هذا السد منها شركة مقاولات صينية ألمانية تدعىVoith Hydro Shanghai لبناء وتركيب وتشغيل ستة مولدات توربينية في سد النهضة وستدفع لها إثيوبيا 77.9 مليون دولار. كما تعاقدت مع شركة باور الصينية لبناء الهيكل الهيدروليكي الصلب في السد وذلك مقابل 125.6 مليون دولار .
ووقعت شركة الكهرباء الأثيوبية اتفاقية مع شركة “جي إي هيدرو فرانس” لتسريع بناء سد النهضة بتركيب التوربينين المصممين لتوليد الطاقة ، بالإضافة إلى تركيب خمسة وحدات لتوليد الطاقة بتكلفة قدرها 53.9 مليون يورو. لذلك فإن مشروع سد النهضة الإثيوبي يمثل استثمارا ضخما للعديد من الدول الكبرى في العالم ولا شك أنها تتبنى موقفا داعما له دعما لمصالحها الاستثمارية ، في الوقت الذي تثور فيه المخاوف من أطراف دولية أخرى مثل مصر من هذا السد وتأثيراته المستقبلية.
لقد خلق سد النهضة حالة من تناقض المواقف الدولية تجاهه، بسبب تضارب المصالح وهو ما أدى إلى هذا الجدل المثار حوله. إلا أنه مستمر كمشروع يتطور نحو الاكتمال خلال سنوات قليلة حيث أكد المسؤولون عن السد أن تشغيله الكامل سيكون مع نهاية عام 2022 وأن أول إنتاج للطاقة منه سيبدأ في ديسمبر 2020 حيث من المخطط أن ينتج توربينان فيه 750 ميجاوات.
لاشك أن هذا المشروع يحمل للشعب الإثيوبي أحلاما عريضة وطموحات في تحقيق نقلة إقتصادية كبيرة تنعكس إيجابيا على مستويات المعيشة ونمط الحياة داخل دولة عانى أهلها لسنوات من الفقر المدقع. ولكن لاغنى في ذلك عن الاستقرار والتعايش السلمي الآمن مع دول الجوار وهو ما تؤكده التصريحات الإيجابية من الطرف الإثيوبي والتعهدات التي اتخذتها بعدم الإضرار بشعوب دول حوض النيل أو المساس بحصصهم المائية، إضافة إلى روح التعاون والتهدئة التي اتخذها الجانب المصري سيما بعد زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد للقاهرة بعد توليه منصبه، وتعهده للرئيس السيسي بالحفاظ على أمن مصر المائي.