مقدمـة:
غالبـاً ما تجلب أخبارالقرن الإفريقي الحـزن والألم، ولا تكاد تسمع منها خبـراً ساراً إلا فيما ندر، لكثـرة الأزمات والمشاكل المحيطة بالمنطقة وتعقيداتها، علاوة على موجات الجفاف والمجاعات المتكررة التي تضرب المنطقة من حين لأخر.

وقد أفضت تلك الكوارث الطبيعية إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي أسهـم بدوره في إزكاء الصرعات والحروب الأهلية بين الجماعات العرقية والإثنية التي تشهدهاالمنطقة، خاصة مع التداخل القبلي والسكاني بين مختلف الدول المكونة للقرن الإفريقي، مما مهد الطريق لذلك التدخل الدولي الذي يخفي وراءه العديد من الأهداف غير المعلنة، وهكذا ظلـت الصـورة الذهنيـة للقرن الإفريقي ـ في وسائل الإعلام الدولية المختلفـة ـ ترتبط بالنزاعات والحروب والمجاعات، حتى أصبح يطلق عليه اسم “قـرن المجاعة”، وفي ظل تلك الصـورة القاتمة والأخبار المحبطة والتحليلات والاستنتاجات الأكثر احباطاً، تأتي الزيارة التاريخية لرئيس الوزراء الإثيوبي الدكتور أباي أحمد إلى العاصمة الإريترية أسمرة، لتشكل ضوءاً في آخر النفق المظلم.

لقاء أسمرة: وبداية نهاية القطيعة

ربما لا يختلف اثنان على أهمية هذه الزيارة التاريخية التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي إلى العاصمة أسمرة، لإيجاد حل سياسي “محلي” للنزاع الإثيوبي ـ الإريتري الذي يعد واحداً من أهم مشاكل المنطقة وأكثرها تعقيداً.

ونالت هذه الزيارة حظاً وافراً من الاهتمام السياسي والإعلامي على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وقد علق كثير من الكتاب والمراقبين السياسيين على هذه الزيارة، إذ وصفها البعض بحالة “تمرد” لإنهاء حالـة اللا حـرب واللا سلم التي تسـود طبيعة العلاقـات الإثيوبية ـ الإريتـرية منـذ 1998م، مما ينعكـس إيجاباً على عوامل الاستقرار في منطقـة القرن الإفريقي، ويفتح آفاق جديدة للتعاون الإقليمي من خلال بناء شـراكة سياسية واقتصاديـة حقيقيـة قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك.

وكان الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، عقد اجتماعاً مع رئيس الوزراء الإثيوبي والوفد المرافق له، بالقصر الرئاسي في أسمرة، بحث فيه الجانبان مختلف القضايا الخلافية، وكيفية حلها سلمياً على ضـوء مبادرة السلام التي عرضها رئيس الوزراء أباي أحمد، والتي تضمنت قبول كافة بنود اتفاقية الجزائر وتطبيق كامل لتطبيق قرارات اللجنة المستقلة لترسيم الحدود بين البلدين، فقد كان الاجتماع ودياً بكل معنى الكلمة، حيث تبادل الزعيمان الابتسامات أمام عدسات وسائل الإعلام.

فقد أشاد الرئيس أفورقي، شخص رئيس الوزراء الإثيوبي وشجاعته الكبيرة من أجل إنهاء الخلاف وإعادة روح الأخوة والصداقة بين البلدين، مشيراً إلى أن جوهر النزاع بين الجانين لم يكن أصلاً في قضية الحدود، بل أن هناك بعض الأيادي الخارجية، لعبت دوراً كبيراً في تفجير الموقف، فضلاً عن القيادة الإثيوبية السابقة التي ساهمت بدورها في إحداث هذا الشرخ بالعلاقات الثنائية، مؤكداً أن القيادييـن اتفقا على طي صحفة الخلافات، والوقوف معاً لكافة التحديات التي تواجه الشعبيـن الإريتري والإثيوبي الشقيقين.

ومن جهته أعرب رئيس الوزراء الإثيوبي ـ عبر تصريح خاص للتلفزيون الإثيوبي (ETV)- عن شكره وامتنانه العميق لإريتريا قيادة وحكومة وشعباً، على حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، موضحاً أن الجانبين توصلا إلى اتفاق حول مجمل الملفات والقضايا التي تم بحثها خلال الاجتماع، مشيراً إلى أنهما اتفقا أيضاً على إيجاد حل مشترك لبعض القضايا الفرعية العالقة، وذلك على أساس الأخوة والتعاون المشترك.

وطبقاً لمصادر إعلامية إثيوبية فإن الاتفاقية الجديدة التي تم إبرامها خلال اجتماع أسمرة، تشمل العديد من مجالات التعاون وفي مقدمتها التعاون السياسي والاقتصادي والتجاري والاجتماعي والأمني، ومن أبرز ما جاء فيها:

o إنهاء حالة الحرب وبدء عهد جديد من السلام والصداقة.

o إعادة التمثيل الدبلوماسي المتبادل وفتح كل منها سفارته في عاصمة البلد الآخر الأخرى.

o إعادة الروابط التجارية والاقتصادية بين البلدين.

o رفع القيود الأمنية وسماح الشعبين الشقيقين بحرية الحركة والتنقل بين البلدين.

o إعادة تشغيل خطوط الطيران، واستئناف خطوط الطيران الإثيوبية رحلاتها إلى العاصمة الإريترية أسمرة.

o بدء إثيوبيا مجدداً باستخدام الموانئ الإريترية.

ردود الأفعال الشعبية:

فقد كان لهذه الزيارة التاريخية كبير الأثر على الصعيد الشعبي، وبدا ذلك جلياً من خلال المسيرة الجماهيرية غير المسبوقة التي خرجت بالعاصمة أسمرة، لاستقبال وترحيب رئيس الوزراء الإثيوبي والوفد الحكومي المرافق له.

وحسب رأي كثير من المرقبين فإن لحظة وصول رئيس الوزراء الإثيوبي إلى العاصمة الإريترية أسمرة، مثلت للشعبين الإثيوبي والإريتري، لحظة تاريخية بالغ الأهمية مشابهة لحظة سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة بين الشيوعي والرأسمالي، التي شهدتها الخارطة السياسية الدولية في بداية حقبة التسعينات من القرن العشرين، وربما لم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لكافة شعوب هذه المنطقة التي عانت من ويلات الصراعات والحروب “البسوسية” منذ العقد السادس من القرن الماضي.

وهناك حالة من التفاؤل تسود حالياً المشهد الإقليمي أكثر من أي وقت مضى، ويعود الفضل في ذلك إلى بوادر انفراج في العلاقات الإثيوبية ـ الإريترية التي تلوح في الأفق، منذ أن تولى الدكتور أباي أحمد مقاليد السلطة في إثيوبيا مطلع أبريل الماضي، وكان أول الغيث إعلان أباي أحمد عن استعداده التامة لتسـوية النـزاع الحدودي مع دولة إريتريا الجارة، وفقاً لاتفاقية الجزائر وقرارات اللجنة المستقلة لترسيم الحدود بين البلدين.

رؤية مستقبلية للعلاقات الإثيوبية ـ الإريترية:

بناء على نتائج هذه الزيارة التاريخية وما سبقها من جهود سياسية حثيثة ذات العلاقات، فإننا نستطيع القول إن النزاع الإثيوبي ـ الإريتري، في طريقه إلى الحل لإنهاء عقدين من القطيعة بين البلدين، وأن كافة المؤشرات والمعطيات الأولية تفضي إلى طي صفحة الخلافات وإعادة بناء العلاقات الثنائية على أسس جديدة من التعاون المشترك، وذلك هو الاحتمال المرجح لمستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين، طبعا إذا لم يحدث أي تطورمفاجئ بالوضع السياسي الراهن في إثيوبيا ـ من شأنه تغيير خارطة المعادلة السياسية الجديدة في البلاد، وهذا الاحتمال ـ وإن كان ضئيلاً ـ لكنه ما زال وارداً في ظل الحديث عن وجود تململ كبير لموقف الجبهة الشعبية لتحرير التقراي (TPLF) إحدى المكونات الأربعة للائتلاف الإثيوبي الحاكم (EPRDF) تجاه الخطوات الإصلاحية العميقة التي يجريها رئيس الوزراء أباي أحمد بالبلاد.

وكذلك ما لم يحدث أي تغيير للموقف الإريتري،وهذا أيضاً احتمال وارد، حيث لا تزال العديد من الدوائـر الإقليميـة تخشى من انقـلاب الرئيس الإريتـري على هذه الاتفاقية والاستمرار سياساته القديمة لتغذية الصراعات والنزاعات الداخلية من أجل زعزعة استقرار الدول المجاورة، ولكن الأيام القامة وحدها كفيلة بالكشف عن النهج السياسي الذي يعتمد عليه النظام الإريتري للتعامل مع قضايا ومشاكل المنطقة.