رسالة إلى البرزخ
محمد عبد الله أبوبكر (طالي)
آخر تحديث: 6/09/2015
محمد عبدالله أبوبكر (طالي) / صحفي وناقد اجتماعي
إنه يوم من عام 1997، والساعة تشير إلى الثانية عشر طهرا. المكان هو مستشفي كيتسني الواقع شرقي العاصمة مقديشو.
ترقد على سرير في إحدى قاعة هذا المستشفى امرأة في العقد الثاني من عمرها. هي مصابة بجروح جراء إطلاق رجل مسلح النار على سيارة كان معظم ركابها نسوة من سكان مقديشو. هن نساء خرجن في الصباح الباكر من بيوتهن قاصدات الى محلات العمل لهن بحثا عن لقمة العيش لأنفسهن ولأولادهن؛ حتى لا يقعوا ضيحة للمجاعة والأوضاع المعيشية السيئة التي كانت تسود أجواء العاصمة ومعظم أقاليم البلاد في ذلك الزمن الذي كانت فيه المليشيات القبلية تتحارب في أوساط المدنيين.
عودة الى قصة هذه المسكينة الراقدة على إحدى سرائر مستشفي كيتسني، فهي أم لولدين وبنت أكبرهم هو في السابعة من عمره، واصغرهم هو صاحب 5 أشهر. أطلق رجل مسلح طلقات نارية على سيارة كان من ضمن ركابها هذه السيدة المصابة، ووحدها أصيبت بجروح دون أية ضحية أخرى لتلك الجريمة.
كانت السيدة تتلقى الدواء في داخل هذ المستشفى لمدة يومين. هي على السرير، وذووها يجلسون حولها ليطمئنوا على حالها. يتكلم كل من ذويها لها بلطف، وهي تنطق بصوت ضعيف؛ كأنها تلفظ آخر كلماتها مستعدة للرحيل من هذا الكون الذي يديره المجرم الغاشم ولا مجال فيه للعدل. ترحل من هذا الكون الذي صار قتل النساء أسهل طريقة لكسب العيش بالنسبة للظالمين الذين حملوا السلاح لارتكاب كل ما يحلو لهم من جرائم. ترحل من هذا الكون تاركة وراءها أطفالها الثلاثة، ولا تدري من يعول عليهم بعد رحيلها.
تجعل آخر كلمات لها رسالة إلى ابنها البكر صاحب الـ7 سنوات من العمر لتضع على عاتقه مسؤولية حماية أخيه وأخته الصغيرين طيلة بقائه في الكون بعد وفاتها.
تقول الأم والموت في انتطارها “يا محمد… يا محمد.. يا محمد.. احم فرحية وأعطها الرعاية الكافية نيابة عني. يا محمد لا تدع اختك تتضرر طالما أنت حي. يا محمد لا تسبب لها أي أذى أو مشكلة. كن عنها مدافعا.كن لها معينا. كن لها مساعدا”.
هكذا كانت رسالة الأم الى ابنها ذي الـ7 الأعوام. فارقتها الحياة في تلك العشية ليمرَ بعدها الوقت مرورا سريعا حتى كبر أطفالها. بلغ محمد 25 عاما، وتخرج من الجامعة ليعمل وليتزوج، وهو الآن أب يرعى أطفالا.
أما فرحية، فهي الأن في احدى أيامها التاريخية، وحصلت على شهادة بكالوريو قبل أسابيع بعد سنوات من الجهد والتعليم.
درست فرحية مراحلها الابتدائية والثانوية بشكل منتظم ثم التحقت بالجامعة لتقضي أربع سنوات في دراسة كلية الأدب والعلوم الانسانية في جامعة مقديشو، وها هي اليوم تحتفل مع زملائها في المسيرة التعليمية بمناسبة تخرجهم مستعدين لفتح صفحات جديدة، مستعدة لأن يكتب لها سلسلة من النجاحات في المستقبل المنظور.
هي فرحية عبدالله طالي قد وصلت إلى جزء مما كانت تحلم به أمها عندما كانت على سرير الموت، وكانت تقدم الوصية إلى أخيها محمد عبد الله طالي. بالفعل تم انجاز هذا النجاح بواسطة مجهود بذله الاثنان بعون أبيهما وبعون جدتهما (أم الأب) وبعون كل من حمل مسؤولية رعايتهما بعد وفاة أمهما. ولو كانت الرسالة تدهب الى البرزخ لأرسلنا اليوم ردَا على رسالة أمنا التي كانت متجهة إلى محمد، ذلك الابن ذي الـ 7 الأعوام والذي خاطبت معه أمه كأنه رجل كبير يطيق علي حمل مسؤولية رعاية أخته الصغرى منه عامين، وفي حين كانت الأم تستعد لتلبية دعوة ملك الموت.
ولو كانت الرسالة تدهب الى البرزخ لأرسلنا إلى أمنا وفي ضريحها أفضل رسالة بالنسبة لنا قائلين لها “يا أماه. كنت بعيدة عنا أعواما كثيرة. لكن أمنياتك التي تركتها قبل أن تجعلها حقيقة كانت تتجسد في روحك لتطل علينا أينما ما نسري، ونردد من وراءنا كلمات تشجيع؛ حتى وصلنا اليوم إلى احدى محطات النجاح. فبشرى لك بتخرج طفلتك الصغيرة التي كنت حزينة على تركها. هي طفلتك التي حبها في قلبك انساك ألم الجروح يوم كنت تلفظ آخر كلماتك قبل الوفاة لتتكلم عن شأن هذه الطفلة دون أن تتكلم عن ممتلكاتك التي صارت لاشي مقارنة باهتمامك بهذه الطفلة. انها طفلتك فرحية التي نجحت بنفس النجاح الذي كنت تتمنين لها. هي فرحية ومعها ابنك البكر محمد الذي حقق هو الأخر نفس النجاح التعليمي قبل عام. والإثنان معا يؤكدان لك بأنهما نشآ وكبرا بعيدين عن رعاية أمهما، لكنهما سلكا غير طريق أمثالهما من الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم أو آباءهم. سلكا طريق التعليم والتقدم وهما يتمتعان بمعنويات جيدة مما ساعدهما على أن يبقى اسمهما في مقدمة لوائح المتفوقين في كل حلقة علمية شاركا فيها مند صغرهما.