دول القرن الأفريقي: دورها وتأثيرها في القضية الصومالية (الجزء الثاني)
عبد الله الفاتح
آخر تحديث: 9/05/2018
لقراءة التقرير أو تنزيله بصيغة بي دي اف انقر هنا
التقرير الأسبوعي
الرقم 30
تحدثنا في الجزء السابق من التقرير أهميـة الصـومال الاستراتيجيـة والجيـوبولتيكيـة، والأزمـة الصـومالية وأبعـادها الإقليميـة والعالميـة، وكذلك طبيـعة الاهتمـام الدولي الراهـن بالصـومال؛ والذي لا نزال نحن بصدده.
الـدور الأمريكـي:
إن اهتمـام الولايات المتحـدة الأمريكيـة بإفريقيـا عامـة والقـرن الإفريـقي خاصـة، ظـل محـدوداً جـداً قبـل أن تتحـرك وتحـل محـل الدول الأوروبيـة أثنـاء الحـرب البـاردة بعـد أفـول عهـد الاستعمـار المبـاشر، وتطـورت الأوضـاع لتعـزيز الوجـود الأمريكـي في القـرن الإفريـقي لحمـاية مصـالحها الاستـراتيجيـة في منطقـة الخليـج العـربي، وقـد ازداد ذلك الإهتمـام بفعـل المنافسـة على مصـادر الطـاقة ومحـاربة الإرهـاب في المنطقـة بالمـرحلة الراهنـة.
وفي بـداية التسعينـات من القـرن العشـرين، شهـدت السيـاسة الأمريكيـة تجـاه الصـومال والمنطقـة تطـورا نوعيـاً آخـر، تمثـل في دخـول القـوات الأمريكيـة في الصـومال في ديسمبـر عام 1992م، لإيقـاف ما أسمتهـا “بحـرب الفقـراء وتوفيـر الغـذاء للجـوعى”.
ومـن الواضـح أن الرئيـس الأمريكـي “بوش الأب” قـد أراد اصطيـاد عصفـورين بحجـر واحـد، وذلك بإبـراز القـوة العسكـرية الأمريكيـة وبأسهـا من جهـة، وتقـديم التدخـل الأمريكـي في الصـومال بوجـه إنسـاني من جهـة ثانيـة، لكـن سـرعان ما انقلـب الحـال بدخـول مواجهـات مباشـرة مـع قـوات الجنـرال محمـد فـارح عيـديد، والمليشيـات المناهضـة للوجـود الأمريكـي، وهـو ما انتهـى بخـروج مـذل من الصـومال في مـارس 1994م.
بالرغـم من أن هـذه الواقعـة كانـت كابحـاً للإدارة الأمريكيـة الأسبـق برئاسـة “بيـل كلينتـون” من التـورط عسكـرياً في مثـل هـذه النـزاعات، إلا أن السيـاسة الأمريكيـة بإتجـاه المنطقـة شهـدت تحـولاً جـذرياً أثنـاء رئاسـة “بوش الابـن” خاصـة بعـد أحـداث 11 سبتمبـر 2001م، حيـث اتجهـت الإدارة الأمريكـية نحـو تكثيـف وجـودها العسكـري لهـدفيـن أسـاسييـن همـا: اليقظـة ومراقبـة المناطـق التي يشتبـه فيهـا الخطـر والـردع لأي تحـرك يهـدد أمـن أمريكـا ومصـالحها الحيـوية في المنطقـة وبالتالي أصبحـت تلعـب دوراً كبيـراً في مجمـل الأحـداث التي تشهـدها المنطقـة.
ولكـن الـدروس التي تعلمتهـا في الصـومال جعلتهـا تتلمـس وسـائل أخـرى أقـل تكلفـة كـدعم بعـض الأنظمـة المواليـة لهـا للقيـام بالحـرب بالوكـالة، أو دعـم الفصـائل المحليـة المسلحـة للقضـاء على نفـوذ مناهضيهـا والحـد من دورهـم.
وإلى جـانب ذلك، استخـدمت الإدارة الأمريكيـة أسلـوب حـروب الصـدامات الخفيفـة (Low intensity Warfare) التي تهـدف إلى مسـاعدة الأطـراف الإفريقيـة المتصـارعة على إبـادة بعضهـا البعـض، وهـذا الأسلـوب انتهجتهـا سـابقاً في عـدد من الدول الإفريقيـة منهـا أنغـولا ومـوزمبيق ودول منطقـة البحيـرات العظمـي، وقـد تـم تمـديدها لتشمـل السـودان والصـومال كمـا جـرى مطلـع 2006م، حيـث قامـت واشنطـن بدعـم أمـراء الحـرب وتأسيـس ما سمـي “تحالـف إرسـاء السـلام ومكافحـة الإرهـاب”، لوقـف نفـوذ المحاكـم الإسـلامية المتـزايد، بيـد أن تلك الحسـابات الأمريكيـة التي كانـت تقـوم على تنظيـف مقـديشـو من الإسـلامييـن، منيـت بإخفـاق حقيقـي.
وبعـد أربعـة أشهـر من المعـارك العنيـفة كلفـت سقـوط أكثـر من 360 قتيـلاً وما يـزيد عـن ألفـي جـريح، تمكنـت مليشيات المحـاكم من بسـط سيطـرتها الكامـلة على العاصمـة الصـومالية مقـديشـو وضواحيهـا، وهـو الأمـر الذي لم يتـح لأي من الفصـائل المسلحـة منفـردة أو مجتمعـة طيلـة سنـوات الحـرب الأهليـة.
الـدور التقليـدي والحـديث للـدول الأوروبيـة:
من حقـائق التاريـخ والجغـرافبـا أن منطقـة القـرن الإفريـقي ظلـت درحـاً من الزمن محـل تنافـس بيـن الـدول الأوروبيـة الاستعمـارية، وقـد كـان لهـذه القـوى دور محـوري في تشكيـل الأوضـاع والحـدود السيـاسية في المنطقـة ورسـم حـدود دولهـا وفق مصالحهـا الاستعمـارية.
وعـودة لشـأن دور الـدول الأوروبيـة في الأزمـة الصـومالية، فقـد انخـرطـت هـذه الـدول في إدارة مسيـرة تسـوية النـزاع في الصـومال، ووضعـت مؤخـراً مـا سمـي “الاستراتيجيـة السيـاسية الإقليميـة للسـلام والأمـن والتنميـة للقـرن الإفريـقي”.
وقـد أوضـح المفـوض الأوروبي لـوي مشيـل، بأن هـذه الاستـراتيجـة الجـديدة تهـدف إلى إتبـاع مسـار أكثـر كفـاءة في التعامـل مـع مختلـف قضـايا المنطقـة وسـط منافسـة حـادة مـع الولايـات المتحـدة الأمريكيـة والصيـن والقـوى الدوليـة الصـاعدة الأخـرى.
وتحـدث عـن مبـادرات ترسيـم الحـدود ودعـم الجهـود الجيبـوتية والكينيـة في تحقيـق السـلام بالصـومال، وكـذلك حـل جميـع النـزاعات في المنطقـة في إطـار تقـوية التعـاون مـع الاتحـاد الأوروبي وشـركاء الإيقـاد للتنميـة.
ومن جهـة أخـرى سـارعت العـديد من الدول الأوروبيـة إلى إرسـال قـوات عسكـرية لحمايـة مصـالحها في المنطقـة، وهـو ما اتضـح من خـلال عمليـات (ATLANTI) التي تـم إدخالهـا من بوابـة مكافحـة القرصنـة في السـواحل الصـومالية.
اهتمـام القـوى الدوليـة الصـاعدة:
لقـد اتسعـت دائـرة الاهتمـام العالمـي بالمنطقـة، حيـث ظهـرت قـوة دوليـة صاعـدة أخـرى مثـل الصيـن واليـابان وتركيـا وإسـرائيـل وإيـران، دخلـت بقـوة على مسـرح الأحـداث، وبهـذا أصبحـت السـواحل الصـومالية تعـج بالأسـاطيل والقـوات البحـرية من مختلـف دول العـالم.
وبحـسب رأي المحلليـن، فإن التـدافـع العسكـري الدولـي على المنطقـة وبهـذا الشكـل المكثـف أدى إلى خلـق نوع من عـدم الاستقـرار الداخـلي في الصـومال ومعظـم دول المنطقـة، ممـا ساهـم في اضطـراب الإقليـم على الرغـم من المحاولات الجـادة لاحتـواء الصـراعات في المنطقـة.
أما على المستـوى الإقليمـي العـربي فقـد كانت ردود الأفعـال دون مستـوى الطمـوح، وانصبـت في تأييـدها للحلـول الأمريكيـة واستراتيجيتهـا الخاصـة بمحـاربة التنظيمـات والجماعـات الإسـلامية المتطرفـة، وذلك باستثنـاء “مبـادرة خجـولة” من السعـودية تتعلـق بإنشـاء قـوات بحـرية مشتـركة للدول العـربية المطلـة على البحـر الأحمـر هـدفها حمايـة أمن البحـر الأحمـر من هجمـات القـرصنة الصـومالية.
رابعـاً: تفـاعل دول الجـوار ودورهـا حيـال التـزاع في الصـومال
لم تكـن دول القـرن الإفـريقي بعيـدة عن مجـريات الأحـداث في الصـومال المجـاورة لإحسـاسها بتأثيـرات الأزمـة الصـومالية التي أصبحـت حالـة استثنـائية شـاذة على مصالحهـا وأمنهـا القـومي، فقـد تدخلـت معظـم دول المنطقـة في النـزاع الصـومالي، بأشكـال وطـرق مختلفـة وبأهـداف متعـددة، خاصـة في ظـل طبيعـة التـداخل الجغـرافي والسكـاني الإثنـي بيـن هـذه الـدول، إذ لا يمكـن تجاهـل دور تلك العـوامل في مكـونات الصـراع الراهـن في المنطقـة، وهـو ما يعـد أحـد الأسبـاب التي تسـاعد في تأجيـج الأزمـة الصـومالية وتعقيـدها.
ومن المـلاحظ أن إثيـوبيا تدخلـت مبكـراً في الأزمـة الصـوماليـة، كطـرف فاعـل ومؤثـر في النـزاع، وقـد أصبحـت تلعـب دوراً محـورياً في مجمـل الأحـداث والمغيـرات التي تشهـدها الصـومال، وكـذلك الحـال بالنسبـة لكينيـا، علمـاً أن كـل من الدوليـن لهـا مصـالح تاريخيـة تتنـاقـض مـع رغبـة الصـومالييـن في قيـام ما كان يعـرف بمشـروع الدولـة “الصـومال الكبيـر” الذي يشمـل الإمتـدادات الإثنيـة الصـومالية في المنطقـة.
وبـدورهـا دخلـت إريتـريا مؤخـراً في هـذا النـزاع من بـاب المكايـدة لإثيـوبيا، كمـا دخلـت دول أخـرى مثـل يوغنـدا وبورونـدي من بـاب القـوات الإفريقيـة لحفـظ السـلام في الصـومال.
ولهـذا شهـدت الأزمـة الصـومالية منـذ سقـوط نظـام محمـد سيـاد بـري عـام 1991م استقطـاباً حـاداً من قبـل دول الجـور، حيـث حاولـت كـل دولـة إنجـاح مبـادرتها وإفشـال ما سـواها، بهـذا تكـون كـل دول القـرن الإفريـقي قـد ساهـمت بدرجـات متفاوتـة في الأزمـة الصـوماليـة سـواء ضمـن محاولات الحـل أو بغـرض تأجيـج النـزاعات أو تفكيـك الدولة الصـوماليـة وتقسيـم أرضهـا، وقـد أفضـى ذلك إلى حالـة من عـدم الاستقـرار بالمنطقـة وغليـان سيـاسي لبيئتهـا الداخليـة.
ومن الصعـوبة بمكـان إجـراء تقييـم شـامل لدور دول الجـوار ومـدى تأثيـرها في تسـوية النـزاع في الصـومال، نظـراً لأن تداعيـات الأزمـة ما زالـت مستمـرة على كافـة المستـويات والأصعـدة، وبالتـالي لا زالـت جهـود التسـوية الإقليميـة جـارية أيضـاً.
ورغـم الاهتمـام المتواصـل الذي توليـه دول القـرن الإفريـقي لمجمـل الأحـداث والمتغيـرات التي تشهـدها الصـومال، إلا أنـه عنـد إعمـال مقاييـس المنطـق والواقـع، نجـد أن الـدور الذي تلعبـه معظـم هـذه الـدول في السـاحة الصـومالية، مـا زال دوراً وظيفيـاً يتنـاغم مـع الاستـراتيجيـة المعلنـة من الولايـات المتحـدة الأمريكيـة والـدول الأوروبيـة ذات النفـوذ التقليـدي في المنطقـة.
ويمكـن إرجـاع ذلك لعـدة أسبـاب موضـوعية من بينهـا، غيـاب رؤيـة استـراتيجـة مستقلـة لدى دول المنطقـة، وعـدم وضـوح الأهـداف التي تـريد تحقيقهـا على أرض الواقـع، بالإضـافة إلى غيـاب عنصـر التقـارب والتجـانس وعـدم توفـر الإرادة السيـاسية، وكـل ذلك انعكـس سلبـاً على أداء هـذه الدول وتنـاولهـا للقضـايا المطـروحة، وبالتـالي يمكن القـول بإخفاقهـا في احتـواء الأزمـة وحلهـا.
والحلقة القادمة من التقرير تعكـس جانـبا من هـذه الدوامـة، تتمثـل دور دول الجـوار وتأثيـرها بمجـريات الأحـداث ومآلاتهـا المستقبليـة في الصـومال.