جيبـــوتي.. اقتصاديات القواعد العسكرية (الجزء الثاني)
عبد الله الفاتح
آخر تحديث: 9/05/2019
قراءة التقرير أو تنزيله بصيغة بي دي اف انقر هنا
التقرير الأسبوعي
الرقم 61
جيبوتي والصين: جذور العلاقات ومسارات التطور
من حقائق التاريخ أن العلاقات الجيبوتية–الصينية، ليست وليدة اليـــــوم، بل إنها قديمة وضاربة في عمق التاريخ حيث تمتد جذورها لقرون من الزمــــــن، فقد كان الصينيون من أهم الشعوب التي اتصلت بالسواحل الشرقي لإفريقيامن خلال قوافل التجارة البحرية التي كانت تقصـــد هذه المنطقـــــة، وذلك لاعتبــــــارات اقتصادية وتجــــــــارية تتميــــــز بها السواحل الشرقي لإفريقيـــــا.
وبالفعـــــل كان العامل التجـــــــاري وحداً من الأسباب المهمـــــة التي دفعت الصينيين– كغيرهم من الشعوب الآسيوية – لارتيادالسواحل الشرقي لإفريقيا وإقامة علاقات وطيـــــــدة مع سكان هذه المنطقــــةمنذ القدم.
وبالرغم لما شهدته تلك الحقبـــة من تطورات بارزة في العلاقات التجارية بين الصيـــن وسكان الساحل الصـــــومالي، إلا أنها قد بدأت تتحول وتتغيــــــر تحت تأثيـــــــر عدد من العوامل منهـــــا؛الهجمات الحربية العنيفة التي تعرضت لها كثيــــــر من المدن والموانئ الصومالية، إبان الغزو البرتغالي لســــــــواحل الصومال عام 1499م، يضاف إلى ذلك حقيقـة جوهــــــرية أخرى تتصــــــل بالتغيرات السياسيــة والاقتصادية والعسكـــــــرية الواسعة المدى التي شهدتها المنطقة خلال حقبــــــة الاحتـــــــلال الأوروبي للقارة الإفريقيـــــة قبـــــل قرنين من الزمــــــان.
وكـــــــــان أن ترتب على هذا التغيـــــيـر تقسيــــم الأراضي الصـــــــومالية إلى خمســـــة أقاليم وزعت بين بريطــــــانيا وإيطاليــا وفرنســــا، وفي عام 1884م، فرضت فرنســــــا سيطرتها الكاملة على إقليم الساحـــــل الصــــــومالي الذي استقــــــــل عام 1977م، وأصبــــح جمهـــــورية جيبــــــوتي.
نشأة العلاقات الدبلوماسية
بدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين جمهورية جيبــــــــوتي والصين الشعبية في أواخـــــر السبعينات من القرن الماضي،عندما بادرت الصيـــن باعتراف الدولـــة الوليـــــدة وافتتاح سفارتها بجيبـــــــــوتي في 8 ينـــــاير 1979م، بينما ظلت الأخيــــرة تدير علاقاتها مع الصيـــن بنظام التمثيــــــل الدبلوماسي غير المقيــــــم إلى أن تم افتتاح أول سفارة لها في بكيــن عام 2001م.
وفي بداية الثمانينـــات من القرن الماضي، تم تبادل الزيـارات على المستوى المسؤولين بين البلدين، إلى جانب عديد من الزيـــارات الفنية والتنسيقية، وقد لعبت هذه الزيارات دوراً مهماً في بناء العلاقات وتبادل الخبرات، فضـــــلاً عن تمويل الصين عددا من مشروعات الأشغال العامة في جيبــــوتي.
وشهدت العلاقات بين البلدين تطوراً مستمراً خلال العقـــــود الأربعة الماضية، بيـــــد أن درجـــــة ومستـوى هذا التطور يتباين من فتـــرة زمنيــــة لأخــــــرى، وفقاً للظروف والمتغيـــــرات الدولية.
ومع وصـــــــول الرئيس إسماعيـل عمر جيله إلى سدة الحكم عام 1999م، توثقت علاقات جيبــــــوتي أكثر بالصين، ويرجـــع الفضـــــــل في ذلك إلى جملة من المتغيـــــرات أفضت إلى تصاعد اهتمــــام الصين بجيبـــــوتي، من أجــــــل حماية مصالحها الاقتصادية في المنطقــــة وصــــون أمـــن وسلامة الصينيين الذين يشكلون القوى المحركة للاستراتيجية الصينية الجديدة.
ولذلك تطورت العلاقات بصورة مضطردة بلغت ذروتهــــــا عام 2015م، ودخلت مرحلة جديدة بدأت تتبلور ملامحها عبر العديد من الأبعـــاد السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكـــــرية.
وفي نوفمبر 2017م، اتفقت جيبــــــوتي والصين على رفــــــع مستوى العلاقات الثنائية بينهمــــا إلى شراكة استراتيجية، وصدر هـــــذا الإعلان عقب قمة رئاسية عقد في بكيــــن بين الرئيس الجيبــــــوتي إسماعيل عمر جيله ونظيره الصيني شي جين بينغ.
كما احتفــــــل قادة البلدين مطلــــــع هذا العام، بالذكرى الأربعيـن لإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وكانت هذه المناسبة فرصة لتبادل برقيات التهنئـــــة تبدي أهمية الصداقة طويلة الأمد والعلاقات الصحية المستقرة التي تربط بين البلدين، كما أعرب الجانبان عن رغبتهما الصادقة في العمــــــــل على توسيــــع مجالات التعاون المشترك من أجل فتـــــح آفاق جــــــــديدة لتنمية الشراكة الاستراتيجية القائمة بينهما.
ويعتبــــــر التعاون الاقتصــــــــادي أحد أهم المرتكزات التي تعتمد عليها العلاقات الجيبوتية الصينية، كما يمثـــــــــل سبباً أساسياً في تطور العلاقات وازدهارها إلى درجة عالية بآفاق بعيـــــدة لم تكن متوقعة بالســـــــرعة التي تمت بها، حيث لم تعد جيبــــــوتي بالنسبة للصين شريكاً اقتصادياً مهمـــــــاً فحسب، وإنما صارت بمثابة حجر الزاوية لمشـــــــروع “الحزام والطريق الصيني”، كما أصبحت جيبـــوتي بوابة لاستثمارات الصين الصاعدة في إفريقيـــــا، نسبة لموقعها الجيوستراتيجي الهام في المنطقة.
وهذا ما أكده الرئيس الجيبـــــــوتي إسماعيل عمر جيله – في أكثر من مناسبــــة مشيـــــراً إلى أن بلاده تعمــــــل على استغلال موقعها الجغرافي المتميــــــز في توسيـــــع التعاون المشترك مع الصين، موضحاً أن قادة البلدين مستمران في تعميق الثقة المتبادلة وتعزيز الشراكة الاستراتيجية القائمة بينهما وجعلها نموذجــــــاً للتعاون الجنوبي – الجنوني.
ومن جانبها تؤكـــــد الصين أنها تعمـــــــــل مع جيبـــــــوتي من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري في مجالي البنيـــــــة الأساسية والإنتاج الصناعي، لجعل جيبوتي مركزاً تجاريـــــاً ولوجستياً إقليمياً.
أما حالة التعاون العسكـــــري المثيـــرة للجد، فإنهـــا تمثــــــل الحلقـــــة الأحدث والأبرز في مسار العلاقات الثنائية بين جيبـــــــوتي والصين، ويتناغـــــــم ذلك مع الاستراتيجية الصينيةالجديدة للانخــراط في محاور الصراع الدولي المباشــــر على الموارد والنفــــــــوذ، من أجل حماية مصالحها الاقتصادية واستثماراتها الضخمة في القارة الإفريقيــــة من جهـــــــة، والتأثيــــر علي المحيط الدولي وإحيــــاء الدور الغائب منذ عقود طويلة من جهــــــة أخرى.
ونخلص مما تقدم، بأن العلاقات الثنائية بين جيبــــــوتي والصين، تشهـد تطوراً مستمراً ونقلة نوعيـة هائلة، نتيجة لتطابق وجهات نظــــــر قيادة البلدين واستعدادهما التام للتعاون في شتى المجالات من غيــــر تحفظ.
وبذلك يمثـــــــل العامل الاقتصادي المحرك الأساسي في ثورة العلاقات الجيبــــــــوتية الصينية الراهنة، للانطلاق نحو آفاق التعاون الاستراتيجي من غير كوابح أو أحــــداث تعكــــــــر صفوة العلاقات الحميمة بين البلدين.
العلاقات العسكرية
أما الحديث عن طبيعة العلاقات العسكــــرية الجيبوتية الصينية، وكيفيـة نشأتها وتطورها، فقد يسهل المحاولات الرامية لاستشراف مستقبل هذا التعاون العسكـــري المتصاعد بين البلدين.
بدأت أولى بوادر العلاقات العسكــــــرية الجيبوتية الصينية في الظهــــــــوربالتزامن مع التحـــولات الكبـــرى في خارطة السياسة الدوليـة والإقليمية في بداية حقبة التسعينات من القرن العشــــرين، والتي كان لها تأثيـــــراتها البالغة على منطقـــة القرن الإفريقي.
فكانت جيبــــــوتي تواجه خلال تلك الفتــــرة تمــــــــرداً مسلحاً تقوده جبهــــة استعادة الوحدة والديمقراطية (FRUD)، وبالتالي كانت في حاجة ماســــة إلى الأسلحة والذخيــــرة لمواجهـــة التمرد، لا سيما بعد أن امتنعت فرنســـــا التي كانت تعتبرها – حليفاً استراتيجياً– عن تزويد الجيش الجيبوتي بالســــلاح.
وفي خضم تلك الظروف الحرجــــة، توجهت قيادة جيبـــــــــوتي إلى الصيـــن لطلب المساعدة، والتي بدورها استجابت بشكل سريع ووفــــــرت لجيبوتي ما تحتاجه من الدعم، وهو الأمر الذي كان له تأثيـــــر واضح علي مجــريات الحرب وتغييـــــر موازين القوة على الأرض، ولهــــــذا تحرص جيبـــــــوتي على توسيـــع مجالات التعاون العسكــــري مع الصيــــــن، وتعتبره الأكثــــــر استراتيجية لحماية أمنها القومي وبناء قدراتها العسكــــرية والأمنية.
وبدورها سعت الصين منذ ذلك الوقت المبكر إلى تقوية التعاون العسكري مع جيبـــــوتي، وهي تمكنت بالفعل من اختراق مناطق النفوذ الفرنسي التقليدي وأن تحل محـــــله.
وكان أول الغيث إعلان الصين استعدادها في مجال التدريب العسكري، وتزويد القوات المسلحة الجيبــــوتية بالعتاد العسكري والسلاح، وقد ترجم ذلك إلى العديد من الاتفاقيات العسكـــــرية بين الجانبين، ولذا أصبحت الصين تحتكر معظم التجهيــــزات والمعدات التي تستخدمها القوات الجيبــــــوتية.
القاعدة العسكرية الصينية في جيبــــوتي
تماشياً مع استراتيجيتها الجديدة، بدأت الصين في مطلع 2015م، إجراء مباحثات مكثفة تخللتها العديد من الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات، والتي أثمرت عن توقيـــع اتفاقية تعاون تسمح للصين بإقامة أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي.
للموضوع بقية