بعد أن حكموا إثيوبيا مدة تقرب من ثلاثة عقود.. ماذا يريد “التيجراي”؟
الصومال الجديد
آخر تحديث: 28/09/2022
القاهرة: صفاء عزب
“أشنده”..هو عيد وطني يحتفل به الإثيوبيون كل عام في نهاية شهر أغسطس ويعرف بأنه بداية السنة الإثيوبية وينسب الإسم لتلك النبتة الخضراء التي تنمو في إقليم تيجراي وتصنع منها النساء حزاما يضعنه على وسطهن أثناء مشاركتهن في الاحتفال بالرقص والغناء، ولكن قطاعا كبيرا من أولئك الإثيوبيين الذين ينتمون لـ”التيجراي” حرموا من احتفالاتهم به هذا العام داخل أوطانهم، وحتى من استطاع الاحتفال به خارج الحدود الإثيوبية، أحاطته مشاعر الحزن ومخاوف الموت في ظل تهديدات الحرب والتشرد ومعاناة اللجوء بسبب الصراعات الحامية التي تشهدها الأجواء السياسية بين قومية التيجراي والسلطات الفيدرالية الإثيوبية.
إن صور شعب التيجراي وهم يحتفلون بـ”أشنده” في مناطق اللجوء ومنها السودان تثير التأمل والشعور بالحزن الكامن في الأعماق حيث يبدون وكأنهم يبحثون عن حلم “الوطن” المفقود والذي يحاولون تعويضه من خلال مظاهر شعبية وطقوس تقليدية خاصة بهم في محاولة لخلق فرحة حتى ولو كانت مصطنعة، ولكن واقع الأمر أنه من الصعب أن يعرف شعب التيجراي طعم الفرحة باستقبال عامهم الجديد وقد جاءهم حاملا معه شبح الموت بالحرب أو بالمجاعة أو بالأمراض الفتاكة التي تهددهم نتيجة نقص الأدوية وصعوبة وصول الإمدادات الطبية إليهم، إضافة إلى مشاعرهم الحزينة على أقاربهم وأهليهم الذين انقطعت أخبارهم ولا يعلمون إن كانوا ما زالوا أحياءا أم التهمتهم نيران الحرب في إثيوبيا. لقد حذرت تقارير صادرة من منظمات أممية، من خطورة الوضع الصحي في إثيوبيا وخاصة مناطق التيجراي حيث انخفضت معدلات التطعيم ضد العديد من الأمراض بما في ذلك السعال الديكي والكزاز والتهاب الكبد من 99.3% في عام 2020 إلى 36% في عام 2021، بينما ازداد الوضع تدهورا هذا العام حيث بلغ معدل التطعيم 7%. وكشفت التقارير عن انخفاض في النسب المئوية للأطفال الذين يتم تطعيمهم ضد السل والحصبة، وبينما تجاوز معدل التطعيم 90% في 2020 ، فقد بلغ 10% فقط هذا العام. ولذلك لم يكن غريبا أن تنتشر الحصبة في 10 من مقاطعات تيجراي البالغ عددها 35 منذ بدء الحرب.
لم يتوقف الأمر عند المخاطر الصحية المحتملة، بل تجاوز لمنطقة الخطر المؤكد بسبب ارتفاع أعداد الضحايا في صفوف المدنيين الأبرياء والذين تجاوزوا عدد ضحايا الحرب الأوكرانية. تشير التقديرات أنه بينما سجل مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في منتصف أغسطس الماضي 13212 ضحية في صفوف المدنيين في أوكرانيا ما بين قتيل وجريح، ذكرت صحيفة كندية في مارس الماضي أن ما بين خمسين ومائة ألف شخص لقوا مصرعهم في التيجراي، وتوفى ما بين 150 ألف و200 ألف بسبب الجوع، كما توفى أكثر من 100 ألف بسبب نقص الرعاية الصحية. يضاف إلى ذلك تدمير المرافق الأساسية مثل المدارس ومحطات الكهرباء والمستشفيات، مما أدى إلى تشريد أكثر من مليوني شخص ممن فروا من ديارهم على حين يحتاج 2.5 مليون آخرين إلى مساعدات إنسانية لإنقاذ حياتهم في المناطق المتضررة من الحرب. لذلك أطلق الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس (وهو من التيجراي)، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، صيحة تحذير في 19 أغسطس 2022، مؤكدا أن الأزمة الإنسانية في إثيوبيا تعد أسوأ من تلك الموجودة في أوكرانيا.
باختصار فإن الخراب والدمار والموت هو العنوان الرئيسي في تلك المنطقة التي تشهد حروبا أهلية وصراعات دموية من وقت لآخر ولا يستمر السلام فيها طويلا وكلما وقعت هدنة لوقف القتال فسرعان ما تشتعل شرارة جديدة ليتجدد القتال الدامي ويتصارع أبناء البلد الواحد فيما بينهم بقومياتهم وأعراقهم المختلفة ويدفعون الثمن غاليا في الوقت الذي يهددهم جميعا الموت جوعا بسبب الجفاف الشديد والذي كان أجدر بهم أن يتحدوا معا لمحاربة هذا العدو المشترك بدلا من هذه الحرب التي تقضي على ما تبقى من أخضر في تلك البقعة الإفريقية الساخنة.
وأمام هذا الواقع الأليم وسيناريو الحرب المتكرر يثور التساؤل عن أسباب هذا الصراع وماذا يريد شعب التيجراي حتى تهدأ هذه الحرب وتتوقف، وهل هم حقا المسؤولون وحدهم عن اشتعالها؟
لا شك أننا أمام نسخة من عشرات الحالات المتكررة في القارة الإفريقية السمراء التي كتب عليها وعلى أبنائها استمرار المعاناة من آثار الإستعمار الغربي وتوابعه حتى بعد مرور عشرات السنين على الحصول على الاستقلال وذلك بسبب عملية تقسيم الحدود العشوائية التي فرضها المستعمرعلى شعوب هذه القارة وفقا لمصالحه متجاهلا مصالح الشعوب وحياتهم التي تمزقت على جانبي الأسلاك الشائكة.
لقد أدى التعدد العرقي في إثيوبيا إلى تعقد الوضع وتشابك المصالح وتعارضها بسبب رغبة كل طرف في تحقيق حلم الاستقلال والسيادة والسيطرة. ويوجد في إثيوبيا عرقيات كثيرة منها ثلاثة أعراق رئيسية هي الأمهرة والأورومو والتيجراي التي تعد الأكثر تنظيما في فترات التوتر التي شهدتها إثيوبيا خاصة خلال الصراع مع نظام الديكتاتور مانجستو هيلاماريام حيث منحت قيادة التحالف ضده للتيجراي؛ لأن قواتهم كانت الأكثر تدريبا وتسليحا وتنظيما. وقد دامت السلطة في أيدي التيجراي لمدة تقرب من ثلاثة عقود حتى طفت على السطح حالة التململ والاحتجاج على سيطرتهم طوال هذه المدة وذلك في أعقاب وفاة رئيس الوزراء مليس زناوي وانتخاب خلفه هايلي مريام ديسالين الذي أثيرت في عهده أزمة منح الحكومة المركزية لبعض من أراضي الأورومو لمستثمرين، مما أشعل الشرارة التي أطلقت احتجاجات شعبية متواترة خلال الأعوام من 2015 حتى 2018، الأمر الذي أجبر ديسالين على الاستقالة ليظهر الدكتور أبي أحمد على الساحة السياسية ويصبح أول رئيس حكومة من قومية الأورومو، وهي أكبر مجموعة عرقية في البلاد، اعتادت الشكوى من الاضطهاد الحكومي ضدها لسنوات طويلة قبل تولي أبي السلطة. وكان ترشيحه مثار اعتراض التيجراي، الذين لم يهدأوا منذ تلك اللحظة التي غاب عنهم فيها كرسي الحكم، وسط شائعات بأنهم يتعرضون لاضطهاد من حكومة أبي أحمد.
على الرغم من الآمال التي عقدت على تولي أبي أحمد رئاسة الوزراء والنظر إليه باعتباره شخصية إصلاحية براجماتية ذات عقل راجح بحكم تعليمه الذي تلقاه بالخارج، إلا أن الاضطرابات العرقية لم تهدأ في عهده بل انتشرت واتسعت دائرتها، كما زادت حدة الاحتجاجات التي أطلقها التيجراي اعتراضا على سياساته. وبدا ذلك مبكرا خلال الشهور الأولى من توليه المسؤولية حيث شهدت إثيوبيا محاولة انقلابية في منطقة أمهرة قتل على إثرها مسؤولون حكوميون، أبرزهم رئيس أركان الجيش سيري مكونن الذي ينتمي لقومية التيجراي. وتشهد الدولة الإثيوبية نماذج مختلفة من الصراع الداخلي إلا أن التيجراي هم العنصر الأكثر تكرارا في هذه الصراعات، فنجد صراعهم السياسي مع الحكومة المركزية من جهة وصراعهم مع الأمهرة على الأرض المتنازع عليها بينهم من جهة أخرى مما يعقد الأمور خاصة في ظل وجود صراعات جانبية أخرى تدخل فيها الأورومو التي ينتمي إليها رئيس الحكومة الحالي.
جدير بالذكر أن إقليم التيجراي يقع شمال إثيوبيا وهو إقليم صغير، لكنه يتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي كبير في تاريخ إثيوبيا. وهو يشتهر بالزراعة كما يعد أحد الوجهات السياحية الهامة في البلاد، حيث يضم مراكز تاريخية ودينية مصنفة على قائمة التراث العالمي وفي مقدمتها مدينة أكسوم مهد الكنيسة القبطية الإثيوبية. ومع ذلك فإن الإقليم محروم منذ أكثر من عام من الكهرباء والاتصالات والخدمات المصرفية والوقود في ظل حالة الحرب التي يشهدها مع القوات الحكومية الإثيوبية.
قضى التيجراي ما يقرب من ثلاثة عقود في السلطة حتى جاء أبي أحمد للحكم ولم يتحملوا بقاءهم خارج السلطة إذ أخذوا يقاومون ويسعون لمحاربة السلطات لاعتراضهم على سياسات رئيس الوزراء الجديد المنتمي للأورومو التي قدر لها أن تحكم البلاد لأول مرة. وخاضت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي قتالا ضد القوات الاتحادية الإثيوبية وحلفائها منذ ما يقرب من عامين. وقد منيت الجبهة بهزيمة سريعة في نوفمبر 2020 ثم قامت بشن هجوم مضاد في منتصف 2021 وسيطرت على القسم الأكبر من المنطقة جعلهم يقتربون من أديس أبابا، قبل أن يتراجعوا إلى تيجراي. وبعد عدة أشهر من الهدنة التي تم الإتفاق عليها، تجدد القتال مرة أخرى في أغسطس الماضي بين الجبهة والقوات الحكومية الإثيوبية بما فيها ميليشيات الأمهرة التابعة لها لتذهب جهود الوساطة أدراج الرياح، في ظل غموض الأسباب الحقيقية وراء تجدد القتال. وقد تبادل الطرفان الاتهامات بشأن المسؤولية عن خرق الهدنة ونفي كل منهما مسؤوليته عن استئناف الأعمال العدائية، حيث اتهمت الحكومة الإثيوبية جبهة تيجراي بانتهاك وقف إطلاق النار، فيما اتهمت الأخيرة القوات الإثيوبية ومقاتلي الأمهرة بشن هجوم مكثف على منطقة “ألاماتا” بجنوب تيجراي. كما وجهت أديس أبابا الاتهام لجبهة التيجراي بسرقة المساعدات الإنسانية، وذلك بعدما كشف برنامج الأغذية العالمي عن قيام قوات التيجراي بالسيطرة على 12 شاحنة تابعة لها تحتوي على 570 ألف لتر من الوقود الذي كان سيتم استخدامه لتوزيع المواد الغذائية.
وما زاد من تعقد أزمة التيجراي هو دخول أطراف إقليمية على خط هذا الصراع حيث كشفت مصادر متعددة عن مشاركة القوات الإريترية المساندة للقوات الإثيوبية في الحرب على التيجراي.وكانت الحكومة الكندية قد حذرت من أن إريتريا تقوم بحشد قواتها المسلحة مع استئناف القتال في منطقة التيجراي. وفي مطلع سبتمبر 2022، بدأت المدفعية الإريترية في إطلاق وابل من القذائف ضد جبهة تيجراي، بالتزامن مع رصد استعداد الجيش الإثيوبي لشن هجوم بري. كما أشارت تقارير عسكرية إلى شن القوات الإثيوبية والإريترية هجوماً مشتركاً في منطقة أدايابو بشمال غرب تيجراي.
وعلى الجانب الآخر وجهت الحكومة الإثيوبية اتهامات لأطراف إقليمية بدعم تحركات جبهة تيجراي، حيث أعلن مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الإثيوبي، رضوان حسين، أن قوات أديس أبابا أسقطت طائرة تحمل أسلحة لقوات تيجراي قادمة من الأجواء السودانية، وهي الادعاءات التي نفتها جبهة تيجراي عبر المتحدث الرسمي لها، غيتاتشو رضا، فيما استدعت الخرطوم السفير الإثيوبي للاعتراض على هذه التصريحات.
وكانت جبهة تيجراي قد أكدت تمكنها من السيطرة على مساحات واسعة داخل إقليم الأمهرة، وإلحاق خسائر فادحة بالجيش الإثيوبي، وذلك بالسيطرة على 8 مدن داخل الإقليم، فيما أشارت تقارير غير مؤكدة إلى أن الجبهة تمكنت من تحقيق انتصار حاسم في معركة “كوبو” على قوة هائلة من الجيش الإثيوبي يتكون من 20 فرقة، وأن قوات تيجراي تمكنت من الاستيلاء على ترسانة هائلة من الأسلحة، فيما نفت أديس أبابا ذلك.
هذا وقد شهدت الفترة الأخيرة تصاعدا حادا في وتيرة الاشتباكات بين القوات الإثيوبية وجبهة التيجراي، حيث تسعى الجبهة للسيطرة على منطقة الحمرة لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لهم، باعتبارها منفذا مهما للإمدادات من الخارج، فيما تستهدف القوات الإثيوبية تكثيف تعبئتها العسكرية هناك للحيلولة دون وقوع المنطقة تحت سيطرة التيجراي. وأشارت تقارير إلى مشاركة بعض قوات تيجراي التي كانت متمركزة داخل الأراضي السودانية، وذلك بالتوازي مع التقارير الأممية التي تفيد بوجود عمليات تجنيد إجباري داخل مخيمات اللاجئين الإثيوبيين في شرق السودان.
ومع تدهور الأوضاع الإنسانية ومحاولات التهدئة من الوسطاء أعلنت قوات التيجراي عن استعدادها لوقف إطلاق النار، وقبولها بعملية سلام يقودها الاتحاد الإفريقي. ومع ذلك لا زالت النتائج معلقة بسبب الخلاف بشأن الوساطة وتمسك كل طرف بشروطه حتى بدا الأمر كما لو كانت قناعة راسخة بين الطرفين بأن اللجوء للحرب والقتال هو الطريق الوحيد لحسم الصراع بين التيجراي والقوات الإثيوبية الحكومية ولكن هذا الحل سيكلف الطرفين خسائر كبيرة كما يستنزف الجانب الإثيوبي خاصة لو لعب العامل الخارجي دوره في إذكاء هذا الصراع بوجود من يمد التيجراي بالعتاد والمؤن لمواجهة الدولة الإثيوبية وحلفائها.
لا شك أن الصورة تبدو غامضة وخطيرة في ذات الوقت خاصة مع اتساع دائرة القتال وزيادة احتمالات تورط أطراف إقليمية سواء عمدا أو إضطرارا، ووقتها لن يتمكن العالم من السيطرة على الموقف ولذلك يسعى كثير من الأطراف الدولية والإقليمية لرأب الصدع والعمل على التوصل لحل من أجل وقف نزيف الدم . ويبقى التساؤل هل تنجح الجهود الدولية في هذه المهمة الصعبة ويرضخ الطرفان لجهود الوساطة؟ وهل تتحقق أحلام شعب التيجراي اللاجئين في الخارج في لم الشمل والاحتفال بـ”أشندة” العام القادم في ظل أجواء السلام والعدل داخل إثيوبيا؟! هذا ما ستكشفه الفترة المقبلة.