الي اين سينتهي صراع المغتربين وغير المغتربين في الصومال؟
م/عبد حسين
آخر تحديث: 14/02/2016
بقلم م/عبد حسين
قد يظن البعض أنه لا يوجد صراع أصلاً، وأنّ عنوان الموضوع مبالغ فيه، ولكن دعوني أحدّث ولا حرج، وأقول ان ما يحدث في الصومال هو صراع الأفكار والمبادئ بعينه ، وقد يَتَبلْورُ ذلك الي حرب أكثر شراسةً من الحروب القبلية في الصومال – هو صراع بين المغتربين وغيرهم من الذين لم يهاجروا من الوطن الي دول أجنبية.
ولكن وقبل أن أدخل في صميم موضوع الهجرة الخاصة بالمغتربين الصوماليين، أودُ أن أشير إلى أمر هجّج مشاعري وجذب انتباهي – عندما كنت مسافرا من العاصمة البريطابية لندن الي الصومال- وهو أنه قابلني رجل عند المطار وسألني عما اذا كنتُ مستعدًا إلى أن أعطيه دقائق قليلة من وقتي ليسئلني فيه عن بضعة الأسئلة. في الحققية لم أتردد في الأمر ورحّبتُ به على الفور لأسبباب عدة منها: أن وقت اقلاع الطائرة لم يكن قد حان بعد وكنت أيضا أرغب في معرفة ماهية الأسئلة، ولماذا اختارني الموظف من بين سائر المسافرين لأسئلته. الرجل كان في زيّ موظف عادي ولم يكن شرطياً، والاّ لكان الأمرُ عندي اصعب، وكانت معه فتاة في نفس الزيّ ايضاً والتي كانت على ما يبدو مساعدته في جمع المعلومات وتدوينها.
ولكوني مسلماً يعيش في الغرب سرعان ما انتَابني الشكّ وشعرتُ بعدم الارتياح بالرغم من انني لم أجبر على قبول الأمر وكان تطوعيا بحتاً، وكان باستطاعتي أن أعتذر ببساطة وأذهب الي قاعة الأنتظار. وقبيل طرح قائمة ألاسئلته عليّ، ذهب خيالي بعيداً أتساءل عن ما سيطرح عليّ من أسئلة، ولكننّي في نفس الوقت كنت واثقا من نفسي ومن نزاهة ملف سيرتي الذّاتية الخاليّة من كل شائبة – حتي المخالفات المرورية لم تكن فيه – فضلاً عن جرائم أعظم منها. لذالك لم يكن لديّ ما اخفيه، وهذا ما شَجّعني على ان أجيب على جميع الأسئلة بكل شفافية واطمئنان ومع ابتسامة عريضة كنت أخفف بها انزعاجي اللاإرادي.
خلال خمس دقائق فقط ، وكما وعد الرجل، أنهى جميع أسئلته وكانت كلها تُدندنُ حول الهجرة الّا ان بعضها كانت شخصيّة ومُحرجة مثل: لماذا تسافر، والي اين، ومتى ستعود؟ ما هي المأهلات العلمية والوظيفة؟ كم عمرك؟ ، ومدة الإقامة في بريطانيا، والجنسية الحالية والسابقة؟ وهلم جرا.
وفي النهاية طلبت من الرجل أن يوضّح لي غرضه من جمع المعلومات وما يستخدمها لها. وقبل ان أكمل كلامي ناولني الرجل كتيبات كانت لدى مساعدته وطلب مني ان اقرأها في الطائرة خاصة عندما أشعر فيها الملل. وطلب مني كذلك ان أتصل به اذا كان لدي اي أسئلة تتعلق بالموضوع.
كانت الكتيبات تشير إلى إحصائيات عن الهجرة في السنوات الماضية ومدى تاثيرها علي نمو الاقتصاد وتركيبة السكان في بريطانيا. ومن خلال الصفحات القليلة عرفتُ ماهية موضوع الهجرة ولماذا تهتم به الدول المتقدمة. إضافة الي ذلك، كانت الدراسة تشير ان نسبة كبيرة من الكوادر المؤهلة من المملكة المتحدة تسافر الي الخارج سنويا ، خاصّة الى الخليج العربي، بحثاً عن فرص عمل أفضل، وارتفعت الهجرة اكثر بعد الأزمة الأقتصادية التي ضربت أوروبا في عام 2008م ، ممّا اثّر سلبا على سوق العمل في الدوائر الحكومية مثل التربية والصحة، وهذا ما دعى بريطانيا لجلب كوادر مؤهلة من الخارج وقبول عدد كبير من اللاجئين ليعوّضوا النقص الحاد في سوق العمل. من هنا عرفتُ أيضاً سبب تقدم الدول الغربية ولماذا تستثمر في بناء الإنسان وعقله، وأن هذا هو الثروة الحقيقية والرصيد الدائم لكل دولة ترغب في أن يدوم كيانها شامخاً بين الأمم، وهو الضامن للرقيّ والتقدم على الآخرين في كل المجالات المختلفة. وهذا ايضا ذكرني بيت الشاعر القائل:
العلم يبني بيوتا لا عماد لها ** والجهل يهدم بيوت العز والشرف””
بعد تلك اللفتة والمقدمة القصيرة، دعوني أدجل في موضوعنا المتعلق بالصوماليين المهاجرين. واقول إنه لا تُوجد احصائيات رسميّة تخصُّ عدد المغتربين الصوماليين حول العالم ، الاّ انّه يعتقد أن في أوروبا وأمريكا وحدهما يعيش حوالي نصف مليون مهاجر صومالي. وكذلك هناك عدد لا يستهان به من الصوماليين الذين يعملون في الدول العربية، وخاصة الخليجية، اضافة الي جنوب أفريقيا وغيرها من دول القارة السمراء. هؤلاء جميعهم يحوّلون سنوياً الى الصومال اكثر من مليار ونصف دولار أمريكي وذلك على حسب دراسة نشرت من قبل مكتب الأمم المتحدة للتنمية. وهذا العدد من المهاجرين والمبالغ المُرسلة في ارتفاع دائم سنة تلو الأخرى بسبب الأوضاع الإقتصادية والأمنية الصعبة في البلاد.
، Qurbojoog باللغة الصومالية تسمّى الشريحة المهاجرة من المجتمع وهذا الاسم يُشار به على وجه خاص إلى المغتربين في أوروبا وأمريكا العائدين الى الوطن، و هذه الشريحة هي المعنيّة في هذا المقال.
في السنوات الأخيرة، ولاسيّما بعد تشكيل الحكومة الفدرالية في نوفمبر 2012، شهد الصومالُ تزايداً ملحوظاً في عدد هؤلاء المغتربين العائدين الي الوطن “كهجرة معاكسة ان صحّ التّعبير” لا لزيارة الأقرباء والأصدقاء فقط، بل انّما أيضا لأجل الإقامة والأستثمار في المجالات المختلفة، وردِّ الجميل لبلدهم الأصل الذي اشتاقوا له طويلا لشواطئه الرمليّة ومناخه العذب المُعتدِل.
العودة الي الوطن لم تقتصر علي الصوماليين المنحدرين من الصومال فقط ولكن شملت المنطقة كلها خاصة الدول المجاورة مثل كيننا واثيوبيا حيث عدد كبير من مواطني تلك الدول ينحدرون من اصول صومالية ولهم ارتباط ديني وعائلي وثقافي ولغوي مع الصومالين في الصومال رغم الحدود السياسية التي تحول بينهم.
والسؤال الذي يبادر الى الأذهان هو عما اذا كانت هذه الهجرة “نعمة” يمكن الاستفادة منها في شتّى المجالات التنمويّة، ام انّها “نقمة” تهجّر فقط عقولاً سليمة ولا تاتي الا بأخرى فاسدة، نظرا لتباين وجهات النظر في الموضوع، وعدم وجود دراسة رسمية حوله، فانّه من الصعب تحليل الموضوع بشكل واسع ودقيق، الّا انّنا سنحاول وضع النقاط على الحروف وبسرد آراء مختلفة من المعسكرَين (المغتربِين وغير المغتربِين) لنستطيع من خلال هذه المحاولة معرفة طبيعة الصراع بينهما.
المعسكر الأول – غير المغترب يقول:
المغتربون هم رأس الأفعى والمموّلون الرئيسيون للحرب الأهليّة سابقاً والتي أتت على الأخضر واليابس في البلاد، وهم من يُؤجّجون الفتنة وعدم الاستقرار في الصومال حتّى الأن. المغتربين عند الشدّة غائبون مع أسرِهم في الخارج، امّا عند الرّخاء فتراهم ياتون من كل فجّ عميق، يزاحمون الآخرين في الوظائف الحكومية، ويرفعون المعيشة وإجارات البيوت وبيع العقارات وحتى المُهور. كذالك لم يعد سهلاً للمواطن العاديّ ان يعيش كالمعتاد وان يُكوِّن أسرة أو أن يعُولها. المغتربون يأتون بافكار هدّامة وعقول مشبّعة بفلسفة أجنبية لا تخدم الدِّين ولا الوطن ولا المواطن.
المعسكر الثاني – المغترب يقول:
المغتربون أتوا بالخِبرة والمعرفة، وفي محفظتهم العُملة الأجنبيّة لأجل النُهوض بالوطن وتنشيط حركة السُوق من خلال استثماراتهم المتعددة. هم مواطنون كغيرهم، بغض النظر عن الجوازات الأجنبية التي يحملونها في جُعبتهم ، وعلى هذا يحقّ لهم البقاء في بلدهم الأم، وتولّي مهام الحكم المتعدّدة فيه ، وانّهم هم الوحيدون القادرون على إخراخ بلدهم من المأزق الذي هو فيه. عانوا كثيرًا في الغربة وفراق الدُور والأهل، والأن هاهم راجعون ليكونوا سنداً وذخرًا لبلدهم الحبيب.
تلك آراء الحِزبين – على وتيرة حلقة “الاتجاه المعاكس” – ولكن هذه الحلقة لا تنتهى بانتهاء وقت البرنامج بل تمتدّ ما دام الفريقان يشاركان في مصالح وطنيّة على أرض الأجداد والي ان يرث الله الأرض ومن عليها.
اذاً السؤال الملح هو ما اذا كان الصراع الكلامي يمكن له ان يتطوّر ويشكل تهديداً علي الهويّة الصومالية أو يفجّر حرباً من نوع آخر.
نعم قد يمكن أن يحدث ذلك والدليل علي هذا ما أحاول تلخيصه في ما يلي:
أ- نلاحظ في الصومال تشكُل هذه الطبقتين في المجتمع حيث لكل واحدة لها نواد خاصة بها، وقلّما تختلط واحدة منهما بالأخرى، وهذا ما شكّل شرخاً كبيرًا وتباعدًا في الآراء والاتجاهات في المجتمع.
ب- شريحة المغتربين استحْوذت على المناسب الحكومية ولم تعط فرصة للآخرين ممّا باعد الفجْوة وشكّل تكتلات خطيرة كل واحدة منها تسعى حثيثا للتغلب على الأخرى من خلال وضع علاقيل واشاعات مُبرمجة للحيلولة دون وصولها الى مناصب مهمة في الحكم.
ج- لا توجد مؤسسات وطنية او حكومية ترعى مصالح الفريقين من خلال وضع استراتيجيات مدروسة ولوائح قانونيّة يتقيّد بها الجميع وتجرّم مخالفيها. وهذا ما اعطى الفرصة لكل شريحة في ان تحاول القضاء على الأخري بدون مراقب ولا محاسب. وما يزيد الأمر سوءً أن كل فريق يسخر من الآخر بدون ان يبحث عن نقطة التقاء في المصالح العامة للوطن والمواطن و التي لا يمكن تحقيقها الّا بالتكافل الاجتماعي ووحدة الصف علي أسس وطنيّة ثابتة.
تلك قد تكون بداية شرارة نار حرب جديدة في الصومال ان لم تتمكن الحكومة الصومالية من تدارك الأمرعلى الفور وقبل فوات الأوان.
وهذه نقطة الفراق بين الدول المتقدمة التي تهتم بعقول مواطنيها وخبرتهم بحيث تقوم بإجراء دراسات وإحصائيات مستمرة لأجل تطويرها والاستفادة منها في شتّي المجالات، وبين الدول المتأخرة التي لا تهتم كثيرًا بالعلم بل تراه تهديدًا علي مصالح الدولة وعلى كرسي الحكم. وهذا ما يشجع الهجرة (هجرة العقول) الي الخارج وترك الوطن يتخبّط في ظلمات الجهل والجوع والحروب المستمرة.