المصرف الإسلامي وصيغ العمل فيه (الجزء الحادي عشر)
بشير نور علي
آخر تحديث: 8/04/2019
قراءة التقرير أو تنزيله بصيغة بي دي اف انقر هنا
التقرير الأسبوعي
الرقم 59
عقد المقاولة، وعقد الاستصناع
وبما أن حاجة الإنسان لا تقف عند حد، ومن الممكن، بل ومن المحقق أن العملاء يحتاجون لعملية إنشاء أو تعمير؛ كبناء مسكن، مع عدم قدرتهم على التمويل الكافي لمشاريعهم، فيذهبون إلى مؤسسات مالية تقوم بهذه العملية بنفسها أو من خلال شركات أخرى، وبعد إتمام العمل تسلمه المؤسسة المالية، وتقُوم بتسليمه إلى العميل.
وهذه العمليات التمويلية يستفيد منها كل من العملاء، والمصرف ناهيكا عن أولئك الذين ستشملهم المالية ممن ليسوا طرفا مباشرا فيها؛ بل يستفيدون من العملية بشكل أو بآخر.
المقاولة من العقود الحديثة العهد في ساحة التعاملات المالية الإسلامية، ولم يكن لها وجود عند الفقهاء المتقدمين، فكانت أعمال المقاولات تندرج تحت عقد إجارة الأشخاص حتى جاء القانون المدني المصري الجديد لسنة 1948 م ففصل عقد المقاولة عن عقدين آخرين كما ذكر أ. د. محمَّد حبر الألفي في بحثه” عقد المقاولة: الإنشاء والتعمير” الذي قدمه لمجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد الرابع عشر (2/ 143).
وهذا العقد جديد، دعت إليه الحاجة، ومستجدات الحياة المعاصرة، ولا يخالف القواعد العامة، والأصول الثابتة التي تحكم المالية والتمويل الاسلامي، فبواسطة هذا العقد تمول المصارف الإسلامية، مشاريع بناء المباني الحكومية، مثل المرافق الصحية، والتعليمية، وكذا العسكرية وغيرها فهذا العقد له الاتصال بعقود كثيرة كانت معروفه في العصور الغابرة، مثل عقد الإجارة، وعقد الاستصناع، وعقد العمل.
وللوقوف على مفهوم هذا العقد والاقتراب منه أكثر نورد تعريفاته لغة واصطلاحا:
تعريف المقاولة :
المقاولة لغة من مادة : قول، قال يقول قولاً ومقالة ، وتقاولا أي تفاوضا، وترد قال بمعنى تهيأ للفعل واستعد، وقال بمعنى غلب، ويسمى الملك قيلاً لأنه إذا قال قولاً نفذ قوله. إذا فالمقاولة لغة بصيغتها الحالية من فاعل قاول يقاول مقاولة، وهي من باب المفاعلة، أي المشاركة فيها من قبل المقاول والمقاول له، وفي المعجم الوسيط: المقاولة اتفاق بين طرفين يتعهد أحدهما بأن يقوم للآخر بعمل معين بأجر محدود في مدة معينة .والمقاول من يتعهد بالقيام بعمل معين مستكمل لشروط خاصة كبناء أو إصلاح طريق.
واصطلاحا يعرفه الفقهاء والقانونيون بتعاريف متقاربة أحيانا، ومتباينة أخرى، ومن بين تلك التعاريف ما يلي:
1. “عقد يتعهد بمقتضاه شخص يُسمى المقاول أن يصنع شيئاً أو أن يؤدي عملاً لحساب شخص آخر يسمى صاحب العمل لقاء أجر” .
2. “عقد يلتزم بمقتضاه أحد الطرفين أن يؤدي عملاً أو يصنع شيئًا للطرف الآخر، مقابل عوض دون أن يكون تابعًا له أو نائبًا عنه”.
3. “اتفاق بين طرفين يتعهد أحدهما بأن يقوم للآخر بعمل معين بأجر محدد في مدة معينة”[2].
4. “المقاولة عقد يلتزم أحد المتعاقدين بمقتضاه بصنع شيء، أو أداء عمل، لقاء أجر”.
5. في المادة (124) من مجلة الأحكام العدلية: “الاستصناع عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعملوا شيئًا؛ فالعامل صانع، والمشتري مستصنع، والشيء مصنوع”.
يمكن ملا حظة أوجه الاختلاف، والتلاقي بين عقد المقاولة، وعقود أخرى عموما، وبينه وبين عقدي الإيجار والعمل، فعقد المقاولة يرد على العمل ، بينما عقد الإيجار يرد على منفعة الشيء ، وكونه يرد على العمل باعتبار نتيجته يجعله يتميز عن عقد العمل الذي يرد على العمل في ذاته .
خصائص عقد المقاولة
ومن هذا التعريف نلمس أن لعقد المقاولة خصائص أهمها أنه :
عقد رضائي. ويقع التراضي فيه على عنصرين اثنين : الشيء المطلوب صنعه، أو العمل المطلوب تأديته من المقاول وهو أحد المتعاقدين والأجر الذي يتعهد به رب العمل وهو المتعاقد الآخر .
عقد ملزم للجانبين.
من عقود المعوضات، التي تهدف إلى إحداث معاوضة ومبادلة بين المتعاقدين .
حكم المقاولة، وأقوال العلماء فيها.
وبما أن الأصل في المعاملات الحل فحكم هذا العقد الجواز إذا لم ينقض أصل من أصول التعامل المالي الإسلامي، ويؤخذ من دليل الجواز عموم الأدلة الواردة في مشروعية البيع، والإيجار مثل: وأحل الله البيع وحرم الربا، وغيرها من الأدلة المستفيضة من الكتاب والسنة، وهذا ما يتعلق بعقد المقاولة كعقد دعت إليه الحاجة، وجمع صورا من العقود المعروفة عند عامة الفقهاء، والا فالعقد حديث العهد، جديد، ولم يكن معروفا في قواميس الفقهاء، في العصور القديمة .
وقد سبق التمليح إلى أن عقد المقاولة مزيج بين عقود، وعلى رأسها عقد الاستصناع الذي هو عقد سلم في رأي لجمهور، ولايحمل هذه التسمية إلا في مذهب السادة الحنفية؛ حيث يرى الجمهور ضرورة أن يكون عقد الاستصناع مشتملا على جميع شروط عقد السلم.
الفرق بين عقد المقاولة وعقد الاستصناع، وعقد الاجارة، وعقد السلم
هناك أوجه تشابه بين عقد المقاولة والعقد المذكورة أعلاه؛ من حيث التعريف، ولافرق بينها سوى بعض الفروق وهي كالتالي:
فالمقاولة أعم من الاستصناع إذ بينهما عموم وخصوص مطلق. فكل استصناع مقاولة وليس كل مقاولة استصناعا.
إذا كانت المادة والعمل من المقاول وهو الصانع ، فيكون مقاولة في القانون والعرف واستصناعاً في الفقه. لذلك فالمقاولة عقد جمع بين بيع وإجارة على العمل في صفقة واحدة.
، وإذا كانت المادة من المستصنع والعمل من المقاول وهو الصانع، فهي مقاولة في القانون والعرف، وإجارة على العمل عند الفقهاء .
وعنـد النظر لا نجد بعداً في المعنى والأثر بين المقاولة قانوناً والاستصناع فقهاً.
وتختلف المقاولة عن السلم في عدم اشتراط تعجيل الثمن؛ بل قد تدفع على مراحل.
إذا كان المقاول يقدم العمل فقط فإجارة على العمل، واذا كان المقاول يقدم المادة والعمل معا فمقاولة.
عقد الاستصناع
تعريف عقد الاستصناع: الاستصناع في اللغة من الصنع وفعله استصنع أي طلب الصنع. وفي اصطلاح الفقهاء: أن يطلب إنسان من آخر شيئا لم يصنع بعد ليصنع له طبق مواصفات محددة، بمواد من عند الصانع ، مقابل عوض مالي.
شرح التعريف
من خلال هذا التعريف يظهر لنا جليا أن العقد يتكون من طلب مقدم إلى شخص ليصنع شيئا، ويصنع ذاك الشيء وفق موصوفات، وأن المواد التي تدخل في صنعه من عند الصانع، وذلك بمقابل عوض مالي يرتضى عليه الطرفان.
ومن الملاحظ أن هذا العقد شبيه بعددة عقود، فهو يشبه البيع من حيث أن الصانع يحضر معه المواد، ويشبه الإيجار باعتبار أن العمل من المعقود عليه، كما يشبه عقد السلم؛ بل الجمهور اعتبروه سلما، واشترطوا فيه شروط بيع السلم مثل تعجيل الثمن وتأجيل المثمن، ولا يرونه عقدا مستقلا برأسه، إلا أن الراجح في المذهب الحنفي أنه عقد مستقل، ولا يشترط فيه شروط السلم.
ويشترط لصحة هذا العقد :
1. أن تحدد مواصفات الشيء المطلوب تحديداً يمنع التنازع والخصام عند التسليم.
2. ذكر الأجل لإتمام المهمة عند العقد حسماً للنزاع، وهذا يتماشى مع المعاملات المعاصرة. وقيل إنه لا يجوز ذكر الأجل عند العقد، لأنه عند ذكر الأجل ينقلب إلى عقد سلم.
3. لا يشترط في صحة هذا العقد تعجيل الثمن بل يجوز تأخيره كله أو بعضه. لأنه ليس سلما.
4. ولا يشترط في أن يكون ما يأتي به العامل من صنعه.