العلاقة الإريترية الأمريكية الماضي والحاضر والمستقبل
صفاء عزب
آخر تحديث: 9/12/2018
القاهرة- مرت علاقة إريتريا مع الولايات المتحدة الأمريكية بمراحل عديدة مليئة بالمنعطفات والمواقف الكثيرة المتعارضة والمتناقضة، والمتوافقة في بعض الأحيان. إلا أن ما يلفت نظر المراقبين حول هذه العلاقة هو تأثرها الشديد بالدور الذي تلعبه إثيوبيا في المنطقة، وطبيعة علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي انعكست بدورها في مراحل زمنية عديدة سلبا وإيجابا على علاقة أمريكا بإريتريا، مثلما انعكست مؤخرا بشكل إيجابي على هذه العلاقة خاصة بعد إبرام اتفاق السلام التاريخي بين الجارتين الإفريقيتين بمباركة دولية وترحيب أمريكي. كما يبدو التأثير الكبير للحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في القرن الماضي على تطورات تلك العلاقة بين أمريكا وإريتريا ضمن دول شرق إفريقيا.
كانت البداية في فترة تقرير مصير إريتريا، حيث كان الموقف الأمريكي آنذاك سلبيا تجاه القضية الإريترية، ففي عام 1949 تقدمت الولايات المتحدة الي مجلس الامن بمشروع قرار أمريكي يهدف الي ضم إريتريا الي إثيوبيا ما عدا المديريات الغربية التي رأت ضمها الي السودان. لكن المشروع الأمريكي لم يحالفه النجاح، ما دفع الولايات المتحدة للتقدم بمشروع قرار آخر عام 1950 نجحت في إقراره، وبموجبه أصبحت إريتريا وحدة متمتعة بحكم ذاتي في إطار اتحاد مع إثيوبيا تحت سيادة التاج الإثيوبي، وبعد هذا المشروع الأمريكي لم يعد هناك مجال دولي لمناقشة القضية الإريترية بعد أن حسمها القرار الأمريكي بوضعها تحت السيادة الإثيوبية.
ويمكن أن نفهم ذلك الموقف الأمريكي من إريتريا آنذاك عندما نعيد قراءة تصريحات وزير الخارجية الأمريكي فوستر دالاس والتي قال فيها :” إن أهم ما دفعهم الي تأييد المطالب الإثيوبية هو إنحيازهم الي مصالحهم الإسترتيجية التي تستدعي ربط إريتريا بإثيوبيا “.
وفي إطار هذا التصريح يمكن أن نفهم المبرر الذي دفع الولايات المتحدة لافتتاح قنصلية لها في أسمرة عام 1942، والذي يؤكد النية الأمريكية المبيتة والقديمة في مد أذرعها إلى إريتريا لأسباب استراتيجية. ويؤكد ذلك جملة التعهدات التي حصل عليها الرئيس الأمريكي روزفلت من الإمبراطور الإثيوبي هيلي سلاسي، بالموافقة على إنشاء قاعدة أمريكية في أسمرة، والسماح للولايات المتحدة وحلفائها بالسيطرة علي المياه الإقليمية الاريترية والممرات البحرية بين الشرق والغرب. ونتج عن ذلك أن شهد عام 1953 تواجدا عسكريا أمريكيا كبيرا في إريتريا بلغ قوامه 4000 جندي أمريكي للعمل في قاعدة كانيو ستيشون، والتي كانت تهدف إلى مراقبة تحركات المعسكر الاشتراكي في المحيط الهندي والشرق الأوسط بقيادة الإتحاد السوفييتي آنذاك.
في تلك الأثناء استغلت إثيوبيا هذه الأجواء السياسية وأعلنت أن إريتريا محافطة من محافظاتها، بينما التزمت أمريكا الصمت على الرغم من مخالفة ذلك للقرار الذي تبنته من قبل، وارتبط الدعم الأمريكي لإثيوبيا على حساب القضية الإريترية بوجود الأمبراور هيلي سلاسي، ولما سقط عام 1974 وخلفه منغيستو هيلي ماريام اللشتراكي والذي أعلن عن تملصه من الالتزامات العسكرية مع أمريكا اضطرت الأخيرة لتقليص وجودها في إريتريا حتى أغلقت قاعدة كانيو ستيشون عام 1977 وأغلقت معها قنصليتها في أسمرة.
ومع تغير الأوضاع الدولية والانسحاب السوفييتي من القرن الإفريقي أواخر ثمانينات القرن الماضي، تبدلت أحوال الجبهة الشعبية في المنطقة من تأييد تام للاشتراكية إلى الهرولة نحو الرأسمالية والارتماء في أحضانها خاصة بعد أحداث المجاعة التي ضربت المنطقة منتصف الثمانينات، وساهمت في التقريب بين الجبهة التي كان يقودها أسياس أفورقي- الرئيس الإريتري الحالي- وبين الدول الغربية. وكانت أمريكا حريصة على القفز لملء الفراغ الذي حدث في القرن الإفريقي بخروج العدو السوفييتي، الأمر الذي دفعها للسماح للجبهة الشعبية بفتح مكتب تمثيل لها في واشنطن.
شهد عام 1989 مرحلة جديدة من علاقة إريتريا بالولايات المتحدة عندما سمحت لأسياس أفورقي أمين عام الجبهة الشعبية- آنذاك- بزيارتها رسميا ومقابلة بعض المسؤولين الأمريكيين ورجال الكونجرس وقيادات من اللوبي الصهيوني. وقد نجح أفورقي في انتزاع الدعم الكامل من مختلف الجهات الأمريكية التي التقاها، لا سيما بعد موافقته على بناء قواعد عسكرية أمريكية في إريتريا. وبعد أن قام رجال من الكونجرس بزيارة مناطق الجبهة الشعبية عام 1990 ردا على زيارة أفورقي لأمريكا، اتجهت السياسة الأمريكية لمنح الاستقلال لإريتريا عن إثيوبيا.
وقد أعلنت الخارجية الأمريكية صراحة آنذاك أن علاقتها مع إريتريا تأتي للحفاظ علي الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب الدولي، والسعي لتأسيس نظام ديمقراطي في البلاد، إلى ان خلف هذه الشعارات الرنانة كانت تكمن الأهداف الاستراتيجية الحقيقية من هذه العلاقة، بغية ضمان تواجد أمريكي يحقق أهداف أمريكا الأمنية والاستراتيجية.
وفي عام 1993 توجت الصفحة الجديدة من العلاقة الأمريكية الإريترية باعتراف أمريكا بإريتريا كدولة مستقلة وتعيين أول سفير لها لتكون من أوائل الدول التي سارعت إلى ممارسة نشاط ديبلوماسي في إريتريا حتى قبل إعلان نتيجة الاستفتاء الخاص بالاستقلال.
كان من المتوقع أن تستمر العلاقة بين إريتريا وأمريكا في إتجاه الصعود، لولا أن جاءت إدارة كلينتون عام 1998 وغيرت تحالفاتها الاستراتيجية في القارة الإفريقية بموجب خريطة جديدة تجاهلت فيها إريتريا كحليف استراتيجي واتخذت إثيوبيا بديلا لها في الشرق الإفريقي. خلال عامين تراجعت العلاقات الاريترية الأمريكية بقوة ملحوظة، إلى أن تفجرت الخلافات بشكل صارخ مع حلول عام 2000 .
لقد أدى إحباط إريتريا من تجاهل أمريكا لها واستبدال إثيوبيا بها، إلى قيامها بحملات اعتقالات واسعة لمن لهم صلة بالإدارة الأمريكية، ولم تبال اريتريا بالاستنكار الأمريكي والدولي لحملتها، فقامت بتصعيد الموقف باعتقال مواطنين أمريكيين من أصل إريتري كانا يعملان في السفارة الأمريكية بأسمرة دون محاكمة. وكان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة بتصعيد الموقف ردا على مواقف إريتريا، وذلك بحرمان الدبلوماسيين الإريتريين من امتيازاتهم الدبلوماسية.
في ظل التنافس بين الجارتين الإفريقيتين إريتريا وإثيوبيا على العلاقة بأمريكا تواصل التصعيد بين الأخيرة وإريتريا ووصل لأشده عام 2006 حينما اتهمت إريتريا الولايات المتحدة بتعطيلها تنفيذ اتفاقية الجزائر، ودعم الحكومة الإثيوبية على حساب التدخل في الشؤون الإريترية. أدى هذا التصعيد الإريتري إلى انسحاب السفير الأمريكي والملحق العسكري من حفل عيد الاستقلال الإريتري الذي وجه خلاله أسياس أفورقي الاتهام لأمريكا.
وقد لعب الموقف الأمريكي من الحرب الإريترية الإثيوبية دوره في تعميق الخلاف بين أمريكا وإريتريا التي اعتبرت الموقف الأمريكي من حربها مع إثيوبيا متحيزا للأخيرة، وكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة من العداء والخصومة السياسية بين إريتريا والولايات المتحدة الأمريكية، التي صنفتها من الدول المنتهكة للحريات بعد أن كانتا حليفتين استراتيجيتين. كما أغلقت وزارة الخارجية الأمريكية القنصلية الاريترية في أوكلاند بولاية كاليفورنيا في أغسطس 2007 ، وذلك قبل العمل على دفع الأمم المتحدة نحو فرض عقوبات على إريتريا بحجة دعم الإرهاب.
على مدار تلك الفترة عملت أمريكا على شيطنة إريتريا أمام العالم وتصويرها بأنها دولة مارقة داعمة للإرهاب بينما كانت تغض الطرف عن جرائم أخرى في مختلف أنحاء العالم. ووصلت درجة العداء إلى المطالبة بمحاكمة إريتريا في المحكمة الجنائية الدولية تحت مزاعم الدفاع عن حقوق الإنسان.
ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة بدت ملامح الرغبة المتبادلة بين الطرفين في تهدئة الخصومة والمضي نحو تحسين العلاقات حيث قامت إريتريا بتخفيف القيود المفروضة على السفارة الأمريكية في أسمرة، والكف عن الهجوم المستمر على أمريكا في وسائل الإعلام الرسمي، بل وإرسال رسائل التهاني إلى الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما الرئيس الأمريكي السابق.
وفي المقابل قام عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين وأعضاء من الكونجرس بدور حيوي في استئناف العلاقات بين البلدين، وتلعب الأهمية الاستراتيجية لموقع إريتريا مرة أخرى دورها في تحريك محفزات الرغبة لدى الولايات المتحدة الأمريكية للتقارب من جديد مع إريتريا.
وقد اعترف كتاب أمريكيون بأن أهداف أمريكا الكامنة وراء رغبتها في عودة العلاقات مع إريتريا تتجاوز تلك المعلنة والخاصة بالحرص على إنقاذ الاتفاق الإستراتيجي الذي تم توقيعه بين الجبهة الشعبية الإريترية وجبهة التيجراي في التسعينيات برعاية أمريكية. حيث تم الإشارة إلى ضرورة وجود نظام موال لأمريكا لمواجهة ما أسموه بالمد الإسلامي بالمنطقة والذي اعتبروه تهديدا للمسيحيين. وتحقيقا لهذه الأهداف زادت أهمية تطبيع العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا للتمكن من استخدام موانئها، كما ظهرت الدعوات الداخلية في أمريكا لرفع العقوبات عن إريتريا.
وقد مثل ظهور الرئيس ترامب على الساحة السياسية منعطفا جديدا في علاقة بلاده بإريتريا، خاصة بعد أن أبدى صرامة في التعامل مع إريتريا التي وضعها ضمن الدول التي أوقفت إدارته منح التأشيرات لأبنائها لرفض تلك الدول استقبال مواطنيها الذين تريد الولايات المتحدة ترحيلهم، لتتعقد الأمور ثانية قبل أن تنفرج مع قدوم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي أبدى تجاوبا ومرونة في التعاطي مع قضية العلاقة مع إريتريا.
أخيرا وبعد سنوات من الصراع وتبادل الاتهامات وصل أول مسؤول أمريكي للعاصمة الإريترية أسمرة بعد فترة طويلة من الجمود، وهي الزيارة التي قام بها تيبو ناجي مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية ضمن جولاته في منطقة القرن الإفريقي، وبث لقاء المبعوث الأمريكي مع الرئيس الإريتري، موجات من الطمأنينة بعد إعلان متبادل من الطرفين عن رغبتهما في تعزيز العلاقات ودعم التعاون المشترك في مختلف المجالات، وهو ما يعتبره المراقبون بمثابة صفحة جديدة في العلاقات السياسية بين إريتريا والولايات المتحدة، يعول فيها كلاهما على الاستفادة من الآخر.
إن إريتريا تحتاج إلى الاستفادة من رفع العقوبات عنها في كسر عزلتها والإندماج مع المجتمع الدولي لتحقيق التعاون والدخول في شراكات واستثمارات مشتركة تعود بالنفع على الشعب الإريتري الفقير الذي يعاني منذ سنوات طويلة بسبب الصراعات والحروب وفرض العقوبات.
ومع ذلك فإن استفادة إريتريا من استئناف علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية تتوقف على المقابل الذي تستطيع أن تتفاوض عليه خاصة وأنها تدرك أهمية موقعها الاستراتيجي على البحر الأحمر، خاصة بالنسبة لمضيق باب المندب والذي يمثل أهمية حيوية لإسرائيل حليفة أمريكا. وإذا لم تكن هناك فائدة مباشرة من علاقتها بالولايات المتحدة، فإن الوصول لحالة الوفاق والمصالحة مع جيرانها في القرن الإفريقي يعد من أهم الثمار التي جنتها إريتريا من جراء الدعم الدولي والأمريكي لهذه المصالحة. ويبقى التعاون الإقليمي المشترك هو المتنفس الحقيقي للاقتصاد الإريتري لكي يحقق النهضة التي ينشدها الشعب.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي تحرص على هدوء الأوضاع وقربها الدائم من منطقة القرن الإفريقي من خلال تقوية علاقاتها مع دول المنطقة ومنها إريتريا، بما يمكنها من السيطرة على الأوضاع عند حدوث خطر ما يهدد حليفتها إسرائيل. وربما تعمل أمريكا مستقبلا على تواجدها الاقتصادي بالمنطقة من خلال دفع الاستثمارات الأمريكية للسوق الإريتري والدخول في منافسة مع غريمتها الصين خاصة في قطاع التعدين البكر الذي يحمل كثيرا من الكنوز للعاملين في هذا المجال.
ورغم كل ذلك تبقى العلاقات الأمريكية الإريترية رهن الحسابات الأمريكية والمزاج الدولي والقدرة على تصعيد المواقف ضد الدولة الإفريقية القابعة في القرن الإفريقي والتلويح بكارت الحريات وحقوق الإنسان كلما تطلبت المصالح الأمريكية ذلك. ومن هنا فإن على إريتريا أن تستغل الفرصة للنهوض بنفسها والعمل على معالجة المشاكل الداخلية والحقوقية لغلق الثغرات التي يمكن أن تستغلها الإدارة الأمريكية ضدها في المستقبل. كما أن على إريتريا أن تستغل المرحلة الجديدة بعد رفع العقوبات في مد جسور التعاون مع جميع دول العالم وخاصة دول الجوار من أجل تجاوز مرحلة الدولة الضعيفة التي كانت دوما تدفع ثمن السياسات الأمريكية بسبب خلافاتها مع الجيران.