العلاقات السودانية الإثيوبية بين الخلافات الحدودية والأزمات الداخلية
الصومال الجديد
آخر تحديث: 8/09/2022
القاهرة: صفاء عزب
بينما يخوض الجيش الإثيوبي معارك ضارية مع جبهة تحرير التيغراي، تحول المثلث الحدودي بين السودان وإثيوبيا إلى منطقة مشتعلة بالصراع الشرس وذلك بسبب عمليات النزوح إلى الداخل السوداني، وأصبحت السودان متورطة في حرب على أرضها لا ناقة فيها ولا جمل حيث تقوم القوات الإثيوبية بطلعات جوية بالقرب من منطقة القضيمة السودانية لتحتدم المواجهات بمحاذاة حمدايت بالفشقة الكبرى قرب الحدود المشتركة لولايتي القضارف وكسلا المحاذيتين لإثيوبيا مما دفع السلطات السودانية لإقامة مخيمات لجوء لاستيعاب الأعداد الكبيرة من اللاجئين. وهو تطور خطير تشهده الحدود الإثيوبية السودانية ويشي باحتمالات تجدد التوتر واشتعال الصراع القديم بين الجارتين الإفريقيتين من جديد بعد فترة قصيرة من الهدوء النسبي المؤقت عقب تصالح الطرفين.
لقد أدى امتداد حرب إثيوبيا مع متمرديها إلى جارتها السودان إلى اعتراض الأخيرة خاصة بعد سقوط ضحايا من المدنيين حيث أخطرت السلطات الأمنية السودانية بعض المنظمات الأجنبية العاملة في منطقة “حمدايت” بمغادرة مواقعها بعد احتدام المواجهات العسكرية. وارتفعت درجة حرارة التوتر لمستوى مثير لقلق المراقبين بعد استدعاء الخرطوم للسفير الأثيوبي لديها للاحتجاج على تصريح أدلى به، وقال فيه إن جيش بلاده أسقط طائرة دخلت المجال الجوي الإثيوبي عبر الأجواء السودانية وعلى متنها أسلحة موجهة إلى قوات إقليم تيغراي. وتزامن ذلك مع قيام ضابط إثيوبي وعدد من جنوده بتسليم أنفسهم للقوات السودانية على الحدود المشتركة بين البلدين حسبما أفادت قناة “الشرق” السعودية. بطبيعة الحال قامت القوات المسلحة السودانية بإرسال تعزيزات عسكرية لإعادة الانتشار في منطقة حمداييت المتاخمة للحدود الإثيوبية لمواجهة هذه الأوضاع الأمنية الخطيرة.
ولا شك أن هذه التطورات تمثل تهديدات جديدة للعلاقة السودانية الإثيوبية والتي شهدت عبر سنوات طويلة حالة من عدم الإستقرار، ولم تكن بحاجة إلى سبب جديد لمضاعفة التوتر بين البلدين حيث تشوب علاقتهما غيوم سياسية كثيرة بسبب خلافات سد النهضة والتنازع حول أراضي مثلث الفشقة الحدودي بالإضافة إلى قضية إعدام إثيوبيا لسودانيين.
ككثير من الدول الإفريقية تلعب مشكلة الحدود السبب الرئيسي في إثارة الخلافات والنزاعات حول كيفية ترسيمها بين الجيران بدون حدوث أزمات مرتبطة بتداخل الشعوب والأقاليم والقبائل بل والعائلات في بعض الأحيان وهو ما يفتح المجال للصراع المحموم حول المنطقة المتنازع عليها وقد يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى حروب طاحنة يضيع فيها المئات بل الآلاف من الضحايا الأبرياء. وهو ما نشهده على أرض الواقع في الخلاف الإثيوبي مع بعض الجيران ومنهم السودان. ويرجع السبب الرئيس في ذلك الخلاف إلى التنازع الحدودي على أرض الفشقة والذي تعود جذوره إلى الحقبة الإستعمارية كغيره من النزاعات الحدودية في القارة السمراء. لقد نصت معاهدات عام 1902 و1907 على أن حدود السودان الدولية تمتد إلى الشرق من الفشقة، بما يؤكد انتماءها إلى دولة السودان وليس إثيوبيا، لكن الإثيوبيين مارسوا الزراعة فيها استقروا هناك. وعلى الرغم من محادثات ترسيم الحدود التي تمت نهاية القرن العشرين لترسيم حدودهما التي يبلغ طولها 744 كيلومتراً، ظل الخلاف قائما حول الفشقة تحديدا. ونجحت المفاوضات عام 2008 في التقريب بين البلدين حول هذه المنطقة حيث اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية، وفي المقابل سمح السودان للإثيوبيين بالاستمرار في العيش هناك لاعتبارات إنسانية.
جدير بالذكر أن التعدد العرقي في إثيوبيا وما خلفه من صراعات داخلية محمومة على السلطة، قد ألقى بظلاله على تجدد الخلافات الحدودية مرة أخرى مع الجارة السودان. لقد كانت مفاوضات الصلح تمت وأثمرت عن اتفاق عام 2008 بحضور آبي تسيهاي، المسؤول الكبير في جبهة تحرير شعب تيغراي ورئيس الوفد الإثيوبي، ولما تمت الإطاحة بالجبهة من قيادة السلطة في إثيوبيا عام 2018، وظهر آبي أحمد على الساحة السياسية الإثيوبية أدان زعماء عرقية الأمهرة الاتفاق، ووصفوه بأنه صفقة سرية، وزعموا إتمامه دون استشارتهم بشكل صحيح بشأن ذلك الاتفاق. هذا وقد اشتدت حدة النزاع مع تجدد الاشتباكات بشكل دموي في منطقة الفشقة منذ أواخر عام 2020 بعد اندلاع الحرب الإثيوبية ضد متمردي جبهة تحرير شعب تيغراي. ويبدو الأمر حاليا كما لو كانت إثيوبيا الحالية تتنصل من اعترافها بحق السودان في الفشقة الحدودية. حيث شهد شهر يونيو الماضي أحداثا ساخنة شكلت منعطفا خطيرا في العلاقات الإثيوبية السودانية.
وكانت الخرطوم ، قد اتهمت الجيش الإثيوبي بإعدام سبعة جنود سودانيين ومدني أسروا على الأراضي السودانية في منطقة الفشقة الحدودية المتنازع عليها بين البلدين وأصدرت القوات المسلحة السودانية بيانا حول هذاالموضوع قالت فيه: إن “هذا الموقف الغادر لن يمر بلا رد، وسنرد على هذا التصرف الجبان بما يناسبه”. في المقابل نفت الحكومة والجيش في إثيوبيا ذلك واتهمتا الجنود السودانيين بدخول الأراضي الإثيوبية، ما أدى إلى وقوع اشتباك مع ميليشيا محلية تسبب في خسائر في الجانبين، كما نفى قائد الجيش الإثيوبي، الجنرال بيرهاندو جولا، الاتهامات السودانية. وقالت وسائل إعلام سودانية إن القوات الإثيوبية قتلت عشرات الجنود السودانيين في منطقة حدودية متنازع عليها. وزاد من سخونة الأوضاع التدفقات الكبيرة على المنطقة الحدودية مع السودان من اللاجئين التيغراي الهاربين من الحرب في إثيوبيا والذين يشكلون عبئا ثقيلا وأزمة إضافية للطرف السوداني.
من جانبه وصف القائد العام للجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان منطقة الفشقة الحدودية مع أثيوبيا بأنها ” أرض سودانية خالصة”. وقام بزيارة ميدانية بصحبة قيادات عسكرية وأمنية رفيعة المستوى للتأكيد على هذا المعنى، عندما تجددت الخلافات ونشبت بعض الأحداث بالمنطقة وتقدم السودان بشكوى لقمة الايجاد الطارئة ضد إثيوبيا، وهو ما اثار مخاوف البعض من تحول الأمر لتصعيد جديد وسط هواجس الخوف من نشوب حرب بين الجارتين الإفريقيتين. ولذلك حرصت أطراف إقليمية ودولية عديد على التدخل بدافع التهدئة، كان منهم رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، موسى فقي محمد، الذي أعرب عن قلقه من «تصعيد التوتر العسكري» بين إثيوبيا والسودان، ودعا البلدين إلى الامتناع عن أي عملية عسكرية جديدة.
وجاءت قمة الإيجاد الأخيرة بكينيا لتشهد التحول الإيجابي في العلاقة بين البلدين واستعادة صفوها من جديد في أعقاب لقاء مغلق تم على هامش القمة بين رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد ورئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبدالفتاح البرهان واللذين اسدلا الستار على مشاهد الخلافات الدائرة عند منطقة الحدود وهو ما أكدته تصريحاتهما المعلنة، وقد علق أبي أحمد قائلا: “هناك العديد من الأشياء المشتركة بين شعبي إثيوبيا والسودان، وإنهما سيعملان معا لحل مشاكلهما سلميا”، إنه “يتعين على البلدين تعزيز العلاقات بينهما من خلال حل مشاكلهما من خلال الحوار”. وتوافق مع ذلك تصريحات البرهان التي قال فيها: إن “الخلافات بين الدول الإفريقية يجب أن تحل في إطار البيت الإفريقي وبالطرق الودية”.
لكن مع الأسف لم يستمر هذا التوافق طويلا، فسرعان ما اشتعل الخلاف من جديد بسبب أحداث المواجهات بين القوات الإثيوبية ومقاتلي جبهة التيغراي والتي انعكست على السودان وأعادت الخلافات الحدودية للمشهد مرة أخرى، وألقت بظلالها على العلاقات الإثيوبية السودانية.
بالنظر إلى النقاط المفصلية في هذه العلاقة نجدها شديدة الحساسية ودائمة التحول السريع وذلك يرجع إلى خصوصية التكوين الداخلي لكلا البلدين والتنوع العرقي لا سيما بدولة إثيوبيا وما يسببه من مشكلات مزمنة وضغوط دائمة على القيادة لاحتوائها واستيعابها، فعندما تتفجر الأوضاع الداخلية غضبا وتمردا، وتخرج عن السيطرة فإنها تنعكس سلبا على الجيران خاصة عندما يتطلب الأمر التعامل الأمني الصارم معها سواء من الطرف الإثيوبي أو السوداني الذي يحاول الدفاع عن حدوده وأرضه.
كما تتشابه نقاط الضعف لدى كل من السودان وإثيوبيا فيما يتعلق بوجود بؤر للتمرد الداخلي من قبل أقاليم تعاني من مشاكل عرقية، ففي السودان يوجد إقليم دارفور وفي إثيوبيا يوجد التيغراي وكلاهما يبحث عن تقنين أوضاعه رغبة في تحقيق وضع يضمن لهما حقوقا سياسية واقتصادية بحسب اعتباراتهما الخاصة. لذلك لا تهدأ الإشتباكات الداخلية لدى البلدين مع استمرار الوضع كما هو، بما يعني وجود ما يسمى نمط تبادل زعزعة الإستقرار الذي يلعب الطرفان عليه ليشكل إحدى أخطر أسباب توتر العلاقات الثنائية.
من جانب آخر يؤدي تشعب القضايا المشتركة إلى زيادة بؤر النزاعات وتعدد أسباب الخلافات، فلا يمكن فصل ما يحدث عن الاحتقانات الكامنة لدى السودان بسبب عمليات ملء سد النهضة التي تصر إثيوبيا على المضي فيها قدما بشكل منفرد، ضاربة عرض الحائط بمتطلبات موقف السودان ومعه الطرف المصري المتضررين من السد.
ويرى بعض المراقبين أن إثيوبيا تتصرف بنوع من التعالي وبشكل أكثر حدة تجاه الطرف السوداني، كما تسعى لخلق دور قيادي لنفسها تجاه الجيران بحثا عن زعامة إقليمية بينما لا تسمح لأي طرف آخر أن يقوم بهذا الأمر تجاهها. لقد سافر آبي أحمد إلى الخرطوم في يونيو من عام 2019 لتشجيع المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية والجنرالات السودانيين على التوصل إلى اتفاق بشأن حكومة مدنية بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير، وذلك في مبادرة منه لإبراز الدور الإثيوبي. وعندما حاول رئيس الوزراء السوداني المستقيل عبد الله حمدوك القيام بمبادرة لعرض المساعدة في حل الصراع الإثيوبي في التيغراي، رفض أبي أحمد عرضه وأكد إصراره على تعامل الحكومة الإثيوبية مع شؤونها الداخلية بنفسها.
إن الحفاظ على علاقات هادئة ومستقرة بين الجارتين الإفريقيتين هو مطلب ضروري رفقا بشعوب البلدين اللذين يعانيان من أوضاع صعبة بسبب غضب الطبيعة والجفاف وما خلفه من مجاعات ونقص للموارد وتدهور في الأوضاع المعيشية. وهي أوضاع تستلزم التعاون وطي صفحة الخلافات للتفرغ للعمل والتنمية ومواجهة مشكلات الساعة والنهوض بهذه الشعوب المظلومة على مدار سنوات طويلة، وهو أمر يتطلب قيادات تتسم بالحكمة والإخلاص للوطن والقدرة على احتواء واحتضان شعوبها والعمل على حل مشكلاتهم بمنطق العدل والإنصاف وعدم الجور أو التجاوز في حق الجيران…فهل من مستجيب؟!