الصومال.. حكاية ثلاث رايات
علي حلني
آخر تحديث: 10/08/2017
منذ مجيء الاحتلال الأوروبي المنظم إلى منطقة القرن الإفريقي، أو ما كان يعرف بـ”الصومال الكبير” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن تعامل الصوماليين مع هذا الوضع وما أعقبه من ميلاد الدولة الصومالية المستقلة كان يأخذ أشكالاً مختلفة.
وفي الوقت الذي كانت تتشكل فيه الهوية السياسية للصومال كوطن، وللصوماليين كقومية منتشرة في منطقة القرن الإفريقي، نتيجة الاحتكاك بنظم الاحتلال السياسية الاقتصادية والعسكرية والثقافية، فإن ردود فعلهم على هذه النظم الجديدة انضوى تحت رايات ثلاث، كل منها لها أسبابها ومنطلقاتها ونتائجها أيضاً، وهي تشكيل الوعي السياسي للصوماليين حتى هذا اليوم.
وهذه الرايات هي بالترتيب هي: راية الإسلام، والراية القبلية، والراية الوطنية. ونتناول بشيء من التفصيل كل هذه الرايات كيف بدأت وكيف انتهت أيضا وتأثيراتها على تطور المشهد السياسي في الصومال.
الراية الإسلامية (1900-1940)
قبل الحديث عن هذه الراية يجب أن أشير إلى مقدمة ضرورية، وهي أن القوى الدينية في الصومال كانت قوة أدبية لها نفوذ روحي كامل على الصوماليين، ولم يكن علماء الإسلام الصوماليون يعملون تحت أي سلطة سياسية أبداً.
وكانت السيطرة السياسية والاجتماعية لسلاطين القبائل ووجهائهم على تفاوت في سلطاتهم الفعلية على أبناء قبيلتهم والأراضي التي يقطنون فيها.
ولذلك كان سلاطين القبائل هم الجهة التي تعامل معها الاحتلال مباشرة لإضفاء القبول على تواجدهم في المناطق التي يسكنها الصوماليون في منطقة شرق إفريقيا، وتحديداً المناطق الساحلية التي تمتد من باب المندب شمالاً وحتى السواحل الكينية جنوباً.
وبعد تحول الاحتلال من تواجد بشري إلى سلطة سياسية لها قوة عسكرية، فإن روح التذمر بدأت تنتشر بين أصحاب الأرض، وكان رجال الدين بمثابة المرجع لهذا التذمر، بحيث أضافوا بعداً دينياً للمشهد واستعادة المعارك التاريخية بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة وفي مناطق أخرى من العالم الإسلامي.
ومن هنا تم رفع راية الإسلام في وجه الاحتلال الأوروبي، وانتشرت الدعوات للجهاد ضد “الكفار البيض” ولم تخل بعض هذه الرايات من طعم قبلي بسبب عامل الانتماء القبلي لقادة الحرب ضد قوات الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي.
كان هذا الجهاد يستلهم معارك المسلمين الأولى والحروب الصليبية، إضافة إلى أبواب الجهاد في الكتب الفقهية هذه الأبواب التي كانت تدرس نظرياً فقط في الحلقات الدينية، ولكنها لم تكن مطبقة نتيجة انتفاء مجالها على الأرض.
استمرت الراية الإسلامية مرفوعة لمدة أربعين عاماً تقريباً وخفتت قبيل الحرب العالمية الثانية، بسبب موت معظم قياداتها، حيث استبدلت الراية الإسلامية براية أخرى تستلهم حركات التحرر من الاحتلال التي انتشرت في إفريقيا في ذلك الوقت.
الراية الوطنية (1940-1978)
ورثت الراية الوطنية -التي رفعت في وجه الاحتلال قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية في الصومال- الراية الإسلامية، لكنها لم تُزحها عن موقعها تماماً.
ففي الوقت الذي كانت فيه قيادة رجال الدين للراية الإسلامية مبرراً أثناء حكم الاحتلال الفعلي للبلاد فإن الراية الجديدة كانت بقيادة أجيال ولدت أثناء هذا الحكم، وبعض هذه القيادات درست في مدارس الاحتلال واحتكت بشكل مباشر معه ثقافياً واجتماعياً.
وبناء على هذا، فإن النضال تحت الراية الوطنية كان نضالاً سياسياً يستخدم معايير الاحتلال نفسه أكثر مما يستخدم المعايير الدينية، فمطالب من قبيل تصفية الاستعمار وتقرير المصير كانت محل اتفاق بين دول الاحتلال قبل أن تتحول إلى مطالب للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
تمكن رافعو هذه الراية من حشد الصوماليين إلى جانبهم وتوفير غطاء شعبي لنضالهم ضد الاحتلال، وفي عهدهم ولدت الدولة الصومالية الحديثة التي يجادل بعض الباحثين بأن الاستقلال كان رغبة مشتركة بين الطرفين (الأوروبي والصومالي) أكثر من كونه منتزعاً بالنضال.
ساهمت هذه الراية في تشكل الوعي السياسي لدى الصوماليين وخاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفتح الناس أعينهم على مؤسسات الدولة المدنية الوليدة من برلمانية، وقضائية، وقانونية، وحريات، وأحزاب وانتخابات، وتداول سلمي للسلطة، إلى ما هناك من قيم الديمقراطية الحديثة، وإن كانت لم تخل من الإشكاليات الثقافية والاجتماعية التي كانت سائدة في البلاد وقتذاك.
واستمر زخم الراية الوطنية التي رفعها المدنيون من بداية الأربعينيات إلى نهاية الستينيات وواصلها العسكريون إلى نهاية السبعينيات. ويمكن احتساب العقد الأول من حكم العسكر للصومال في هذه الفترة التي شهدت محاولة استعادة الأراضي الباقية تحت الاحتلال إلى أن اختتمت بمحاولة انقلابية لها طابع قبلي في نهاية السبعينيات لتدخل البلاد بعدها في عهد ترفع فيه راية جديدة.
الراية القبلية (1978-2000)
أدت تصرفات العسكر إلى خفوت الراية الوطنية التي رفعوها، واتجه نظام الحكم إلى استمداد البقاء من القبيلة، وأدي ذلك إلى توجه معارضيه إلى القبيلة أيضاً، وخفت بريق الرايتين الأخريين، وحلت محلهما الراية الجديدة التي تختلف أولوياتها عن سابقتيها بشكل كامل.
وبما أن القبيلة لا تعرف غير الدفاع عن أبنائها وإبلها وأراضيها، فإن فترة الثمانينات والتسعينات شهدت عودة النعرات القبلية في كل شيء في البلاد؛ في المناصب، في الاقتصاد في التعليم، وفي الاستفادة من مرافق الدولة صغيرة كانت أو كبيرة.
وقد أدت هذه التطورات إلى انهيار ما تبقى من أعمدة الدولة الصومالية على رؤوس الجميع، لتدخل الصومال بعدها إلى سيطرة كاملة للراية القبلية على المشهد، وأكلت الأخضر واليابس، وأصبح المجتمع الصومالي مكشوفاً أمام نفسه وأمام العالم في نفس الوقت، وأصبحت حالته تُدرس في مختلف مراكز الأبحاث في العالم أيضاً؛ كيف لمجتمع متجانس في العرق واللغة والدين أن ينزلق إلى ما انزلق إليه من التقاتُل والفوضى، وأصبح ما كان يفاخر به الصوماليون جيرانهم من الوحدة نقمة اكتوى بنارها الجميع!
كان سقوط الراية القبلية في الصومال محتوماً، ولكنه لم يأتِ مرة واحدة، ولذلك اتجهت شرائح من المجتمع المأزوم إلى البحث عن رايات أخرى بإمكانها أن ترفع في سبيل الخروج من المشكلة.
اتجهت شريحة إلى الراية الإسلامية مرة أخرى ولكن إلى نسختها العنيفة التي تستلهم تجارب بعض الجماعات الإسلامية في الخارج، ولكنها هي الأخرى آلت إلى التلاشي بسبب فقدانها لجميع أسباب البقاء محلياً وخارجياً.
وعلى الرغم من تناسلها إلى تفريعات أخرى فإن بعض نسخها الأعنف لا تزال باقية.
هذه المرحلة الأخيرة أنتجت وضعاً محلياً وإقليمياً ودوليا خطيراً على الدولة الصومالية أن تتعايش معه إلى حين، لكي تتلمس طريقها لاستعادة قوتها.
وكما يقول “المثل إذا سقط الجمل كثرت سكاكينه”، فإن حملة السكاكين الذين يريدون اقتطاع حصتهم من “الجمل” الصومالي الطريح كثيرون، بعضهم محليون وبعضهم خارجيون وهذه السكاكين بعضها أحدّ من بعض وأكثر إيلاماً.
ولتبسيط الأمر أكثر، فإن تطور الأوضاع في الصومال خلال المراحل التي ذكرناها أدى إلى نشوء مافيات محلية وإقليمية ودولية كلها تريد تجيير الوضع لصالحها بغض النظر عما يلحق بالوطن والمواطنين، وسوف يكون لزاماً على السلطة الحالية أو أي سلطة ستحكم الصومال مستقبلاً ليس فقط التعامل مع هذه المافيات، ولكن الرقص معها أيضاً، وهذا سيكون موضوع مقالي القادم إن شاء الله.
المصدر: هاف بوست