السياسة وتجاوز منطق التاريخ وحكم الجغرافيا [2]
عبد الله الفاتح
آخر تحديث: 30/09/2017
من المؤكـد أن انتخاب السيـد/ محمـد عبد الله فرماجـو رئيسـاً للجمهـورية في فبـراير 2017م، لم يكـن مجـر حـدث عابـر، بل إنه كان بالنسبـة للشعب الصـومالي، بمثابـة بارقـة أمل للخـروج من محنتـه.
وقد شكـل هذا الحـدث ـ حسـب رأي بعض المحلليـن ـ تحـولاً نوعيـاً ويقطـة صـوماليـة جديدة أسقـت جميـع الاحتمـالات وكافـة المراهنات الإقليميـة والدوليـة.
وفعـلاً لم يكـن ذلك متوقعاً في ظـل حالـة الفوضى الضاربة أطنابها في البـلاد، والتي تسببت لمـزيد من التدخـلات الإقليميـة والدوليـة في الشـأن الصـومالي، مما جعـلها الطـرف الأضعف في المعادلـة الإقليميـة والدوليـة.
ومع وصـول الرئيـس فرماجـو إلى سـدة الحكـم، أشاع جـوا من التفاؤل والفـرحـة لم يشهـده الصـومال منـذ سنوات، وهـو ما عبـرت عنـه جماهيـر الشـعب الصـومالي بمسيـرات تأييـد واسعـة في أنحاء البـلاد المختلفـة.
وهـذا الشعـور العام ليـس وليـد قناعـة بأن القيادة الجديدة لديها عصـى سحـرية لحل كافـة مشكـلات الوطـن، ولكن الجميـع وجـد في الأمـر إشارة إلى بدايـة مرحلـة جديدة خاليـة من الفساد السياسـي والتهميـش وإقصـاء الآخـر والكيـد له، ووضع حد لتلك الصـراعات العبثيـة التي لا يمكن وصفها إلا حـرب الجميـع ضد الجميـع.
كما أن مـرد هذا التفاؤل يعـود بالطبـع للاشـارات الإيجابيـة التي تلقاها الشعـب من القيادة الجديدة بأنها تدرك جيـداً خطـورة استمـرار الوضـع على ماهـو عليـه، وأنها جادة في استعادة الأمـن والاستقـرار، وبناء دولـة صـوماليـة ديمقـراطيـة قائمـة على التعددية والمشاركـة العادلـة في السلطـة والثـروة.
التحـدي الأهـم الذي بقي ماثـلاً أمام الحكـومة لا يقتصـر على استعادة الأمـن والاسقـرار، وإنما أيضـاً في قـدرة الحكـومة على التحـرك السياسي الناضـج، على كافـة المستـويات المحليـة والإقليميـة والدوليـة، وصياغـة خطـاب سياسي متوازن يجنبها من أخطـاء وزلات الحكـومات السابقـة.
وبالرغـم من المؤشـرات الإيجابيـة التي أظهـرت الحكـومة في تعامـلها مع بعـض القضايا الدوليـة والإقليميـة، بالإضافـة إلى عـلاقة الحكـومة مع القـوى الإقليميـة المؤثـرة في الشأن الداخلي الصـومالي، حيـث اتسـم القـرار الصـومالي لأول مـرة منذ عقـود، بقـدر من الهدوء والتـوازن.
بيـد أن عبقـرية القيادة الجـديد ـ كما يبـدو ـ لم تنجـح في قـراءة الواقع الصـومالي والإقليمي الحالي بشكـل عميـق، في ظل استمـرار بعـض القـوى الإقليميـة في استراتيجيتها التقليـدية المتمـركزة على افشـال كل الجهـود الراميـة لاستعادة الصـومال عافيتها ودورها التاريخي في المنطقـة، وذلك من خلال تفجيـر الجسـم الصـومالي من الداخـل وجعـله أشـلاء متناثـرة.
وطبعـاً ظلـت هـذه الاستـراتيجيـة، تمثـل أهم عقـدة في العـلاقات الثنائيـة بين الصـومال وبعض دول المنطقـة منها الحكـومة الإثيـوبية التي ترى وجـود حكـومة مواليـة لها في مقـديشو مطلـب ضـروري لأمنها القـومي وطموحهـا الإقليمي.
وهكـذا تقـوم العـلاقات الصـوماليـة الإثيـوبية الراهنـة، على اعتبـارات الهيمـنة والنفـوذ، بدلاً أن تكـون عـلاقات سليمـة قائمـة على المصالح المشتـركة وحـسن الجـوار.
ومن الملاحـظ أن الحكـومة الإثيـوبية تلعـب دوراً كبيـراً في مجمـل الأحـداث والمتغيـرات التي تشهـدها الصـومال منـذ أكثـر من عقديـن.
ولكـن أخطـر ما في الأمـر كله، هـو ما أفـرزه هـذا الواقـع غيـر المتـوازن في المنطقـة من ثقافـة سياسيـة (انهزاميـة) وتصـورات خاطئـة لدى معـظم النخبـة السياسيـة الصـوماليـة في تقـدير الوقـع بشكـل صحيـح.
ووفقاً لهـذا الاعتقـاد السـائد في المنطقـة باتت إثيـوبيا الدولـة المحـورية والأكثـر تأثيـراً على صناعـة القـرار الصـومالي وضياغـة مستقبلـه السياسي، وأن الخـروج من هـذ المنطق هـو مجـرد هـروب إلى الأمام. وهذا ما وثقـه العديد من الكتاب والباحثيـن وعلى رأسهـم المفكـر الإسـلامي الشيـخ عبد الرحمـن سليمان بشيـر، الذي يؤكـد أن هذه الثقافـة السياسيـة صارت جـزءاً من أبجـديات السياسـة في القـرن الإفريقي.
وفي سياق التفكيـر في مستقبـل الدولـة الصـومالية، أطـرح السؤال التالي: “هل الخـروج من الحالـة السياسيـة الراهنـة ممكنـة؟؟ وكيف يتحقق ذلك عملياً؟؟.
وهنا نؤكـد أن الخـروج من هذه الحالـة ممكنـة، وهي ضـرورية لأنها ممكنـة، فالضـرورة تخلق أسباب تحققها، وهي أيضاً ليـست حتميـة تاريخيـة، أو حكمـاً أصـدره التاريخ على الصـومال، ولكـن لا يمكن ذلك إلا إذا توفـرت الإرادة الجادة والوعي السياسي والاجتماعي الذي يحققها.
وفي النهايـة لا يمكـن التفكيـر في مستقبـل الدولـة الصـومالية، دون التفكيـر في المجتمع الصـومالي ذوي الولاءات القبليـة المتشـردمة ودون استيعاب خصوصياته وبنيتـه الفكـرية والسياسيـة، فإن الدولـة مهما تطـورت في آلياتها وأنظمتها وكذلك أساليب عملها وسلوكياتها السياسيـة فإنها لن تحقق شيئاً يذكـر، ما لم يتخلـص المجتمع الصـومالي من العقليـة القبليـة المسيطـرة، وما لم يتحـرر أيضاً من تلك الثقافـة الانهـزامية السائـدة وحالة الوعي اللاوعي السياسي التي تتحكـم مصيـره ومستقبلـه..
الأزمـة الحاليـة وسبـل حلها:
وبعـد مرور قـربة سبعـة أشهـر على وصـول فرماجـو إلى السلطـة وانطـلاقة ما وصفها المحللـون بيقطـة صـوماليـة جديدة، والتي رفعـت سقـف التوقعـات والتفاؤل في انفـراج الأزمـة الصـوماليـة، هاهي تبـرز على السطـح الخـلافات والانقسامات الصـوماليـة مرة أخـرى، وبشكـل أكثـر حـدة.
ولا شك أن القـرار غير المتوقع الذي أقدمـت عليها الحكـومة بتسليـم السيـد عبد الكريم (قلـب طغـح) القيادي في الجبهـة الوطنيـة لتحـرير أوجادين (ONLF) تسبب في تفجـير الموقـف، كما أثار القـرار غضبا عارماً في الأوساط الشعبيـة والسياسيـة.
ولـكن إذا قمنا بإجـراء نظـرة فاحصـة لهـذه المشكلـة، سنجـد أن قـرار الحكـومة كان فقـط بمثابة القشـة التي قصمت طهـر البعبيـر، وأن هناك عوامـل داخليـة وخارجيـة أخرى لعبت دوراً مهماً في تفجيـر الوضـع بهـذا الشكل.
وبحـسب رأي المحلليـن، فإن إقحام الحكـومة نفسها في واحـدة من أشد قضايا المنطقـة إثارة للجـدل والخـلاف، يعـد تصـرفاً خاطئاً يعكـس عدم النضـج السياسي.
وهذا الأمـر شغـل الساحـة الفكـرية والسياسيـة المحليـة في الأونة الأخيـرة، بالبحـث عن مسببات ودوافع القـرار الذي أوقع الحكـومة في مأزق سياسي كبيـر، وأن تداعياته ما زالت تتفاعـل بقـوة وتلقي بظـلالها السالبة على المشهـد السياسي والأمني برمتـه.
وطبعـاً هناك أكثـر من عامـل وسبب وراء صـدور القـرار، يعـود جـزء منها إلى طبيعـة الظـروف المحليـة والإقليميـة والدوليـة التي تعمـل فيها الحكـومة، فيما يعـود بعضها الآخـر إلى المنطلقات والمنهجيـة والأساليـب التي اعتمـدت عليها القيادة الجـديدة في تشخيـص هذا الواقع غيـر الطبيعي الذي تعيـشه المنطقـة.
ومهمـا اختلفـت الآراء وتعددت الاتجاهات حـول سياسـة القيادة الجديدة من حيث كم ونوع انجازاتها ومدى مطابقتها على الآمال العريضـة التي عقـد عليها الشعـب الصـومالي، فإن ذلك كلـه لم يعـد مبرراً كافيـاً لإسقاط الحكـومة وتقديـم مبررات مجانيـة للقـوى الإقليميـة لتدميـر وتفكيك ما تبقى من الدولـة الصـوماليـة وقتـل روح الأمـل والتفاؤل للشعـب.
وعادة في مثـل تلك الأجـواء المسمومة تتبخـر في الهـواء كافـة قضايا الوطـن وتضيـع كل الفرصـة والأحـلام لإيجاد نقاش سياسي وفكـري راق يمكـن استثماره في تطـوير مدخـلات الحياة السياسيـة المتخلفة.
وهنا أتساءل إلى متى تستمـر هذه الحالـة المتخلفـة؟ وإلى متى نتعامـل مع بعضنا البعـض بهـذه العقليـة الفاشيـة؟ التي ترفـض التنازلات؟ ونلجأ إلى شـن الحـروب لأبسـط الأسبـاب؟؟؟.
وحتماً ما لم نتحـرر من هذه العقليـة الموحشـة التي تتحكـم فينا وتحـرمنا من الحـوار العقـلاني الهادي وإتخاذ المواقف والقـرار السليمـة، فإننا سنظـل في حالـة حـرب دائمـة ليـس مع الغيـر ولكن مع أنفسنا أولاً وأخيـراً.
رؤية مستقبليـة:
نخلـص في كـل ما تقـدم أن مستقبل المشهـد السياسي في الصـومال، يكتنفه كثيـر من الغمـوض، وتسيطـر عليه حـزمة من التناقضات والظـواهـر السالبـة، وإختـلال في المقاييـس والمعاييـر التي تتحكـم في تسييـر العـلاقات السياسيـة والاجتماعيـة، إضافـة إلى مفاهيـم متعارضـة لإعادة التعـريف في مسائل مهمـة كالدولـة والمواطـن وحقـوقه الدستورية وغيـرها.
والملاحـظ أن هناك صعـوبات كبيـرة في تحقيق شـرط اكتمال عناصـر الدولـة الصـوماليـة مادياً ومعنـوياً وذلك في ظل وجـود محمـوعة من الممارسات تقـوم بها القـوى الإقليميـة والدوليـة تقـوّض هذا الشـرط، من أجل تحقيق مصالح القـوى ذات النفـوذ والسيطـرة على حسـاب إضعاف موازيـن القـوة داخـل الدولـة من خـلال الإشعال المستمـر للأزمـات السياسيـة والاجتماعيـة في البـلاد وتغذيتها باستمـرار.
التوصيات والمقترحات:
أعتقـد أنه ينبغي على الرئيـس الصـومالي السيـد/ محمـد عبد الله فرماجـو، أن يصـدر قـراراً شجاعاً يهـدف إلى بسـط تقافـة السـلام وترسيخ قيـم الحـوار الوطني كوسيلـة وغايـة من شأنها أن تنيـر لنا معالـم الطـريق إلى بناء الدول والمجتمـع الصـومالي.
ومن هنا آمل أن يعلـن الرئيـس صـراحة أمام جماهيـر الشعـب الصـومالي عن كل الهفـوات والأخطاء السياسيـة التي شابت في مسيـرة الحكـومة، وبالتالي إبداء جـدية حقيقيـة لنـزع فتيـل الأزمـة ومعالجـة آثـارها وتداعياتها الخطيـرة على الاستقـرار السياسي والاجتماعي في البـلاد.
وأعتقـد أن هذه المرحـلة التي تمـر بها الصـومال، تحتـّم على القيادة الجـديدة أن تتبنـى رؤيـة حقيقيـة تعلي الروح الوطنيـة وأساليب الحـوار العقـلاني كخيار استـراتيجي وحضـاري، وحسـب رأينا فإن ذلك يستدعي التركيـز على الخطـوات التاليـة:
تقـديم رؤية شاملـة وبرامج سياسيـة مقنعـة وواضحـة، تمثـل كافـة شـرائح المجتمع الصـومالي وفي جميـع مناطقـه الجغـرافيـة.
تنظيـم الجهـود العمليـة وفق رؤية استراتيجيـة تهـدف إلى اجتثاث الأفكار القاتلـة التي تعـوّق جهـود انتشال الصـومال من النفق المظلـم وبناء دولـة وطنيـة حديثـة قائمـة على مبدإ العـدل والمساواة.
الانطـلاق من القواسـم المشتركة للمجتمـع والاستفادة من التجارب السابقة وعـدم إقصـاء أية جهـود وطنـية تصب لصالح قضايا الوطـن.
الابتعاد عن كـافة الأخطاء والهفـوات التي قـد تقلـل من شعبيتها وتهـزز ثقـة المجتمع وعـدم تقـديم خـدمات مجانيـة للمتربصيـن.
البعـد عن الارتجاليـة السياسيـة، لأن أدنى تشـويش وتضارب في الخطـاب السياسي، من شأنه أن يربك المجتمـع الصـومالي.