السياسة وتجاوز منطق التاريخ وحكم الجغرافيا [1]
عبد الله الفاتح
آخر تحديث: 10/09/2017
مدخل سوسيولوجي:
من حقائق التاريخ والجغرافيا أن الفكر القومي الصومالي الوحدوي (مشروع الصومال الكبير) حقق نجاحاً نسبياً خلال حقبة الاستعمار، في تيسير التواصل الاجتماعي بين أجزاء الصومال الخمسة، وخلق شعورا قوميا عاما بالانتماء لكيان واحد.
واللافت للانتباه أن هذا الشعور لم يكن يقتصر على طبقة سياسية معينة أو فئة اجتماعية بعينها، بل كان شعوراً وجدانياً يحمله كل فرد من المجتمع الصومالي تقريبا، وهذا الأمر بدا جلياً في الاحتفالات التي عمت كافة أرجاء الصومال الخمسة، غداة استقلال الصومال (الجزء الشمالي والجنوبي).
وعلى الرغم من أن الشعب الصومالي قد برز في تلك الحقبة التاريخية، ككيان اجتماعي متجانس قابلاً للتطور في اتجاه التكامل القومي والوحدة، إلا أن النخبة السياسية الصومالية التي قادت حركة التحرر الوطني لم تفشل فقط في تأسيس دولة وطنية ديمقراطية قائمة على المشاركة العادلة في السلطة والثروة وإيجاد أرضية صلبة لبناء التكامل القومي الموحد، بل إنها ارتكبت أخطاء سياسية فادحة قادت الأمة نحو التناقض والانقسام.
وهذا الواقع المتخلف أفرز أوضاعا سياسية قائمة على التهميش والحرمان التنموي، كما أفرز مفاهيم جديدة تعزز على الانقسام السياسي والاستقطاب القبلي.
ومع فشل مشروع الدولة الوطنية تطور التناقض والانقسام بين النخبة السياسية والمجتمع الصومالي إلى صراعات أهلية دموية لم تسفر عن سقوط الحكومة المركزية وتدمير كافة مؤسسات الدولة الصومالية فحسب، بل إنها أحدثت شرخا هائلاً في النسيج الاجتماعي الوطني وآثارا نفسية سيئة في وجدان الشعب الصومالي بكل مكوناته وفئاته.
ورغم التغييرات الكبيرة التي تعرض لها الفكر الاجتماعي والسياسي الصومالي عبر المراحل التاريخية المختلفة، إلا أن ذلك لم يؤد قطيعة ثقافية تؤثر بصورة جذرية في المجري الرئيسي للفكر القومي الصومالي تجاه القضايا الوطنية المختلفة، وفي مقدمتها قضية إقليم الصومال الغربي، التي ظلت تشكل عنصراً مهماً في سياسة الحكومات الصومالية متعاقبة منذ الاستقلال.
وتؤكد كل شواهد التاريخ على أنه ليس بإمكان السياسي مهما بلغت سطوته أن يتحرر من منطق التاريخ وحكم الجغرافيا؛ لأنهما يشكلان مكونا أساسيا في ثقافة وتصور المجتمعات ونظرتهم لأنفسهم وقضاياهم المختلفة، ولذلك فشلت كل محاولات القوى الاستعمارية لتجريد المجتمع الصومالي من ماضيه التاريخي والثقافي.
وقد كان على القيادة الصومالية الجديدة أن تستوعب جيداً في تلك الحقائق وأن لا تكرر تجارب النخبة الصومالية السابقة ومحاولاتها الفاشلة في محو ذاكرة الشعب الصومالي وطمس هويته القومية والوطنية.
من كل المعطيات السابقة يبدو جلياً أن جذور المشكلة لمسألة الصراع في الصومال ترجع في الأساس إلى الخلفيات الفكرية والسياسية الأنثروبولوجية التي قامت على أساسها الدولة الصومالية الحديثة.
وإذا قمنا بفحص وتحليل جذور المشكلة من زاوية السوسيولوجي، نحد أن ظاهرة التناقض الغريب بين منطق القبيلة ومنطق الدولة في الصومال ليست وليدة اللحظة – كما قد يعتقدها البعض – وإنما هي نتاج لعملية طويلة من التنشئة وتراكمات سياسية وفكرية واجتماعية تطورت عبر مراحل التاريخ المختلفة، وساهمت مجتمعة في بروز الأزمة وتفاقمها بهذا الشكل المخيف.
ومع أن هذه المشكلة لا تنحصر في الصومال وحدها، بل إنها ظاهرة (عالمية) تعاني منها كثير من الدول المتخلفة. لكن في الحالة الصومالية فإن موضوع التناقض بين فكرة القبيلة من جهة وفلسفة الدولة وقيم الحداثة من جهة ثانية، يحمل في أحشائه أبعادا كثيرة تسببت في أشكال من العنف السياسي والاجتماعي يهدد الوحدة الوطنية والسلمي الاجتماعي في البلاد.
وكما سبق أن أشرنا إلى أن الواقع أفرز وعياً لدى قطاعات واسعة من المجتمع، بضرورة الاعتماد على القبيلة كخيار وحيد لمواجهة التهميش والإقصاء، وبالتالي فإن الشعور بالغبن والظلم والتهميش قد أفضى إلى تشكيل أحزاب سياسية وإدارات محلية عديدة رسمت حدودها السياسية على أساس قبلي محض، ومعظم تلك الإدارات تنافس الحكومة المركزية على كل شيء تقريباً، فيما تثير بعض منها موضوع الانفصال والاستقلال الكامل عن الصومال.
وهكذا أصبح يتشكل المشهد السياسي والاجتماعي الجديد في الصومال وفقاً لمنطق القبيلة وطبقاً لاستراتيجيات القوى الإقليمية والدولية.
ومن كل تلك المعطيات والتحليل السوسيولوجي، يمكن القول إن المجتمع الصومالي بات يشكل ظاهرة اجتماعية غريبة، تجانس في كل شيء واختلاف في كل شيء.
وأكد تلك الحقيقة المفكر الإسلامي الشيخ عبد الرحمن سليمان بشير، وهو يرى أن جذور الأزمة في الصومال ليست – كما تبدو في ظاهرها – مرتبطة بطبيعة النظام السياسي سواء السابق (المدني والعسكري) أو اللاحق (من عهد أمراء الحرب حتى اليوم) بل إنها مرتبطة بمنظومة القبلية كفكرة، وليست في بنية القبيلة كنسيج اجتماعي.
وتكمن المشكلة بكون فكرة القبيلة المتجذرة في الذات الصومالية، تستوعب دوماً في فكرة الدولة، فتفشل الأخيرة.
كما أن سطوة فكرة القبيلة التي لا تعرف المنطق ولا المعقول لم تقف إلى هذا الحد فحسب، بل إنها امتدت إلى كافة مناحي الفكر والإبداع وطالت على جميع مؤسسات المجتمع المدني، وقد رأينا مؤخراً كيف أن هذا الغول الفكري الهائج استوعب حتى فكرة الحركات الإسلامية الصومالية.
وهنا يقترح الكاتب عدة بدائل وخيارات للخروج من فكرة القبيلة إلى فلسفة الدولة المدنية، من بينها:
التحرر من الاعتقاد السائد وسط النخبة الصومالية بأنه ليس من الممكن الخروج من قفص القبيلة. وأعتقد أن هذا الاعتقاد الفكري بات يشكل أحد المسلمات لدى الباحثين والكتاب عند توصيفهم للأزمة الصومالية.
فحل الأزمة الصومالية – وفقا لهذا الاعتقاد – لا يمكن تصور تسويتها في إطار صومالي صومالي، لكن لابد من توافق الأطراف الإقليمية والدولية على هذه التسوية، ليحدث توافق نوعي يقود البلاد إلى حل دائم بشرط أن يراعي ذلك خارطة التوازنات بالمنطقة.
وهذه المقدمة الطويلة قد يراها البعض بأنها مجرد ترف فكري أو حيلة للهروب من الواقع، وقد يعتبرها آخرون بأنها ليست ضرورية للحديث عن مستجدات الأزمة السياسية في الصومال، التي تفجرت عقب تسليم الحكومة المواطن عبد الكريم شيخ موسى (قلب طغح) إلى الحكومة الإثيوبية.
لكن أقول – وبكل ثقة – بأن هذه المقدمة ليست في صميم الموضوع فحسب، بل إنها ضرورية لتجنب من متاهة التحليلات السطحية والأحاديث الإنشائية التي تركز دائماً على توصيف أعراض المشكلة وتداعياتها، دون فحص في جذور الأزمة وتحليل كافة مسبباتها.
ولدي اعتقاد جازم بأن جزءا كبيرا من المشكلة يعود إلى تلك التصورات الذهنية النمطية لتفسير طبيعة الأزمة ومآلاتها المستقبلية.
وللعودة إلى آخر المستجدات في الساحة الصومالية، فإن المشهد السياسي الراهن بكل تجلياته، يبدو قاتما حزيناً.
فهذه الخطوة غير المحسوبة التي أقدمت عليها الحكومة أثارت حفيظة الشعب الصومالي الذي يرى أن القيادة الجديدة التي كان يعلق عليها آمالا كبيرة، خذلتهم وسلبت كرامتهم.
والحكومة الصومالية – كما يبدو – تقف اليوم على مفترق الطرق؛ حيث الفرص والخيارات أمامها تبدو محدودة جداً، كما أن شبح الخوف يخيم على الجميع، أكثر من أي وقت مضى.
ومن لم يستشعر بعد مدى الخطر الذي يهدد البلاد، فعليه أن ينظر حوله ليرى عشرات الأمثلة التي تبرهن تلك الحقيقة.
فعلاً إنها لحظة حاسمة من تاريخ الشعب الصومالي المظلوم، وعلى القيادة السياسية أن تراجع حساباتها وما عليه فعله حيال الأزمة، قبل أن يتسع الخرق على الراتق، وأن تثبت مصداقيتها أمام الاختبار الحقيقي القائم.
يتبع