الرعاية الصحية في إفريقيا
صفاء عزب
آخر تحديث: 16/06/2019
القاهرة- تشهد القارة الإفريقية تطورا ملحوظا وحراكا اقتصاديا إيجابيا مع تزايد الإهتمام العالمي بها وانتباه الدول للثروات والموارد الطبيعية الكامنة في أعماق الأرض الإفريقية، الأمر الذي دفع الكثير من دول العالم إلى فتح نوافذ تعاون عديدة على الإقتصاد الإفريقي. ولاشك أن هذا التطور من شأنه أن يلقي بظلاله على مستويات المعيشة للشعوب الإفريقية، إلا أن تعظيم نتائجه وتحقيقه بشكل مثالي لا ينفك عن العمل بالتوازي على الارتقاء بمستوى الرعاية الصحية للإنسان الإفريقي لأنه أهم عنصر من عناصر العملية الإقتصادية، وبدون العنصر البشري لن يكون هناك إنتاج ولا تقدم اقتصادي. كما أن وجود الأمراض ومطاردتها للشعوب تعمل على فقد كثير من الطاقة الإنتاجية لضعف مستوى الأداء بالنسبة لغير الأصحاء، علاوة على أن إنتشار الأمراض يسهم في زيادة الأعباء الإقتصادية على الدول بسبب التكلفة المرتفعة للعلاج. من أجل ذلك باتت الرعاية الصحية للمواطن الإفريقي ضرورة حتمية لزيادة القدرة والكفاءة الإقتصادية بالإضافة إلى أهميتها من الناحية الإنسانية.
تعد قارة إفريقيا من القارات الفقيرة المظلومة التي عانت ولا زالت تعاني من ابتلاءات كثيرة ومتتابعة عبر تاريخها الضارب بجذوره في أعماق الزمان، بداية من العبودية والإسترقاق ومرورا بالحروب والصراعات واحتلال أراضيها على أيدي الدول الغربية طمعا في ثرواتها ورغبة في الإستيلاء عليها ووصولا لتحويلها إلى مكان لاستقبال نفايات العالم وما أحدثه ذلك من تلوث خطير جعل من القارة الفقيرة موطنا للكثير من الأوبئة، إضافة إلى قيام بعض شركات الأدوية باستغلال شعوبها الفقيرة والتعامل معها كفئران تجارب لمنتجاتها الجديدة وهو ما تنجم عنه مشاكل صحية كارثية. وكانت صحيفة لوموند الفرنسية قد نشرت في وقت سابق تقريرا عن ممارسات شركات الأدوية الكبرى في الهند ودول إفريقيا واستغلال الشعوب الإفريقية كفئران تجارب بمخالفة تحذيرات الدول الغربية من إجراء مثل هذه التجارب على البشر إلا بعد خضوعها لضوابط كبرى، وقد اعترف مدير أحد هذه الشركات التي تدير تجارب طبية على الأفارقة أن جنوب إفريقيا بلد ممتاز لتجربة أدوية مرض نقص المناعة المعروف بالإيدز لانتشار المرض وانتشار الفقر معه بما يسهل مهمة هذه الشركة في إغراء المرضى بقبول التجريب فيهم. لذلك تعاني شعوب القارة الإفريقية من تردي الأوضاع الصحية بشكل خطير مقارنة بشعوب العالم الأخرى. ففي إحصائية تعود لعام 2006 كان هناك عشرون دولة في العالم تعاني من أعلى معدلات لوفيات الأمومة وكان نصيب إفريقيا منها 19 دولة! كما أشارت التقارير آنذاك إلى نقص إمدادات المياه وانعكاسه بالسلب على تلك الأوضاع الصحية، حيث أن نسبة المستفيدين من إمدادات المياه النقية لا تتجاوز 58% في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. يضاف إلى ذلك ملاحظة ارتفاع معدلات انتشار أمراض ضغط الدم والسكري والقلب وكلها تمثل الأسباب الأخطر في حدوث الوفاة.
أيضا من بين الأسباب التي تسهم في انتشار الأمراض الخطيرة بين الأفارقة، هو حدوث الطفرات الوراثية التي تسبب تمحورا في كثير من الأوبئة بما يزيد من مقاومتها للأدوية. وقد كشفت مجلة “نيتشر كوميونيكشنز” العلمية عن أن حدوث مثل هذا التمحور يجعل الأوبئة أشد شراسة وخطورة كما حدث في تمحور طفيل الملاريا وظهور طفيل جديد مقاوم للعقاقير. كما أن رواج حركة السفر وسهولة الإنتقالات سهلت انتقال الأمراض المعدية عبر البلدان بل وعبر القارات أيضا. ومثال ذلك حالة تفشي الأوبئة بشكل كبير في محيط القارة الإفريقية ومنها الإعلان الرسمي عن انتشار الحمى الصفراء فى إريتريا عام 2005 وبعدها مباشرة فى مدغشقر عام 2006، ثم فى كل من مالى وكوت ديفوار فى عام 2008، وفي أنجولا خلال عامى 2015 و2016، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية فى عام 2016، وفي نيجيريا عامي 2017 و2018. كما تكررت نفس الظاهرة في حالة فيروس “زيكا” الذي انتشر في عدة دول إفريقية.
وكان إبراهيم سوسيه فول المدير الإقليمي للمساعدات الطبية العاجلة فى إفريقيا قد أشار إلى أن التغيرات المناخية وارتفاع الحرارة الشديدة ساهم في زيادة المخاطر الصحية في القارة الإفريقية سيما ما يتعلق بارتباط ذلك بتغير مناطق انتشار الحشرات الضارة وما تحمله من أمراض معدية خطيرة. وحذر من إحتمالات انتشار بعوضة الملاريا في مختلف دول القارة مع حلول عام 2030 نتيجة الإحتباس الحراري لو لم تتحرك حكومات تلك الدول وتعمل على إنقاذ شعوبها من الخطر المحدق بها.
على الرغم من أن سكان إفريقيا جنوب الصحراء يمثلون ما يقرب من 12% من سكان العالم – وفقا لإحصاء 2010- إلا أنهم يشكلون نسبة كبيرة من قائمة الأعباء الصحية العالمية، فهم يمثلون 31% من حالات السل، و62% من حالات الإيدز أو فقدان المناعة البشري، 70% من حالات الملاريا. يسهم في تعقد الأوضاع الصحية للشعوب الإفريقية، حالة الإزدواج بين الأمراض السارية وغير السارية في القارة الإفريقية وهو ما يضاعف من خطورة بعض الأمراض مقارنة بمستوياتها لدى شعوب العالم المتقدم . على سبيل المثال، فإن معدلات حدوث الوفاة بسبب أمراض القلب الوعائية تتضاعف بين الأفارقة لثلاثة أمثال معدلاتها في دول أوروبا، نتيجة لتزاحم عدة أنواع من الأمراض على سكان البيئة الإفريقية بينما لا يعانيها المواطن الأوروبي بسبب ارتفاع مستوى الرعاية الصحية هناك. وترتبط هذه الأوضاع الصحية بتكاليف بشرية واقتصادية ومالية بما يؤدي إلى زيادة استحكام الأزمة والتحرك فيما يشبه الدائرة المفرغة. ومن هنا تأتي أهمية المنظمات الدولية والأممية المتخصصة في الإهتمام بصحة الشعوب للعمل على معالجة هذه الظواهر وكسر الحصار الخانق من الأمراض التي تتكالب على الشعوب الإفريقية.
كما أن تطور وسائل السفر جعل العالم أشبه بقرية صغيرة لا ينفصل جزؤه عن كله، ومن ثم فإن ظهور أي وباء في أي مكان بالعالم يستدعي تحركا فوريا وسريعا من كل الأطراف الدولية من باب درء المخاطر ومنعها من الإنتقال إلى شعوبها. لذلك شهدت السنوات الأخيرة تحركات دولية كبيرة لتطويق الأوبئة ووأدها في مهدها قبل انتشارها، كما عملت المؤسسات الصحية على تطبيق برامج صحية للمقاومة والوقاية من هذه الأمراض.
ومن هذا المنطلق نظمت منظمة الصحة العالمية حملات كبرى للتصدي للعديد من الأوبئة المعدية، ونجحت في القضاء على الحالة الوبائية للعديد من الأمراض الخطيرة ومنها الجدري والسل والكوليرا والملاريا والإيبولا والزهري والحصبة والإيدز والإنفلونزا التي تحورت لأكثر من نوع يستهدف البشر. ولكن على الرغم من هذه الجهود لازال خطر تهديد هذه الأمراض قائما، فالسل والحصبة على سبيل المثال لا زالا منتشرين في مناطق كثيرة بإفريقيا، كما أن الحمى الصفراء لا زالت تهدد ربع سكان القارة السمراء، لذلك فإن الأمر لا زال يستلزم بذل مزيد من الجهود للسيطرة على الأوضاع الصحية.
وفي إطار هذه الجهود يتبنى المركز الإفريقي للسيطرة على الأمراض إقامة شبكتين للمراقبة والمختبرات في شتى أنحاء إفريقيا لتعجيل اكتشاف الأوبئة ومنع انتشارها وتعزيز قدرات الوقاية. كما تم الإعلان خلال اجتماع خبراء الصحة العامة الافريقيين والدوليين في الفترة من 27 إلى 29 مارس 2017، لتنسيق الوقاية والاستجابة لمهددات الصحة في إفريقيا، عن التزام المعنيين بالصحة في قارة إفريقيا بمكافحة مقاومة المضادات الحيوية، التي يقدر أنها ستتسبب في حدوث 4 ملايين حالة وفاة سنويا في أفريقيا بحلول عام 2050.
وتأكيدا على الاهتمام بصحة الأفارقة كان الحديث عن الإرتقاء بمستويات الرعاية والخدمات الصحية من المحاور الأساسية في القمة الإفريقية الثانية والثلاثين والتي عقدت في بدايات عام 2019 وأكد خلالها المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم، أن هناك التزاما سياسيا قويا بتعزيز الاستثمار فى قطاع الصحة بالقارة الإفريقية مشيرا إلى أن الرعاية الأساسية أحد السبل الحيوية لتحسين مستوى معيشة الشعوب الإفريقية.
من المؤسف أن تشير الأرقام إلى أن 2% فقط هي نصيب قارة إفريقيا من إجمالي حجم الإنفاق على الرعاية الصحية في العالم البالغ 9.7 تريليونات دولار عام 2015، في الوقت الذي تمثل فيه الشعوب الإفريقية نسبة 16% من سكان العالم و26% من إجمالي الأعباء الصحية في العالم وفق تقديرات نفس العام 2015. ولاشك أننا أمام حالة ظلم بين وتجاهل غير عادل لحقوق شعوب مهدورة ومنهوبة من سنوات طويلة، وقد آن الأوان لتسترد الشعوب الإفريقية حقوقها الصحية. وهي مسألة ليست مستحيلة سيما وأن القطاع الصحي يعد من أهم القطاعات الإستثمارية في الوقت الحالي وأن الإستثمار في صحة البشر من أهم أنواع الإستثمارات المطلوبة وهو ما أكده بيل جيتس صاحب شركة مايكروسوفت حينما قال أن الإستثمار في العنصر البشري مهم للغاية، ونفس ما أعلنه قال تيدروس أدهانوم، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، عندما قال “إن الأوان آن.. كي نجتمع حول أهداف جديدة للصحة لأبناء أفريقيا بما يتواكب مع استراتيجية 2063”.
جدير بالإشارة إلى أن لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية ذكرت بأن قيمة الإستثمار في القطاع الصحي في إفريقيا تبلغ 66 مليار دولار سنويا وهي مسألة قابلة للتحقيق بالتعامل معها على أنها فرصة للتنمية الإقتصادية وخلق فرص عمل لا على أنها عبء ثقيل على كاهل الدولة.
وعلى ذلك يمكن في ظل استراتيجية 2063 الإفريقية تحقيق طفرة صحية كبرى تمثل قاطرة اقتصادية قوية لاقتصادات الدول الفقيرة بشرط تضافر جهود الدولة الداخلية مع جهود المنظمات الدولية وكبار رجال الأعمال والمستثمرين.