إستاد مقديشو .. شاهد على عصر من الصراع ورمز لنهضة مستقبلية مأمولة
صفاء عزب
آخر تحديث: 8/11/2018
القاهرة- يطلقون عليها القوة الناعمة وأحيانا أخرى يسمونها الديبلوماسية الشعبية .. إنها الرياضة، ذلك النشاط البشري الذي يستقطب اهتمام الملايين في شتى أنحاء العالم بمختلف أنواعه، خاصة تلك الرياضة الشعبية الأولى في العالم وهي رياضة كرة القدم. لقد نجح زعماء سياسيون كثيرون في إجادة استثمار شعبية الرياضة في بناء الثقة الداخلية والخارجية في المناخ السياسي السائد داخل بلادهم وضمان التفاف الشعب حولهم، وإذابة الخلافات والتقريب بين الخصوم السياسيين من خلال التشارك الجماعي في مثل هذه المحافل الرياضية، وخلق أجواء تبعث على الشعور بالإستقرار والأمان.
ذلك هو نفس الشعور الإيجابي والمفرح، الذي أشاعه الخبر الخاص بتسلم السلطات الصومالية لملعب مقديشو الشهير بإستاد مقديشو من قوات الأميصوم في سبتمبر الماضي، والذي كان يعد ثاني أكبر إستادات القارة الإفريقية.
إن إستاد مقديشو ليس مجرد ملعب رياضي لممارسة كرة القدم ومختلف الأنشطة الرياضية، إنما هو شاهد على العديد من الأحداث المهمة والمؤلمة أيضا ووقعت على أرضه عمليات إعدام خلال فترات الصراع السياسي الطويلة بالصومال، حتى صار رمزا سياسيا ومكانا له تاريخ في العقلية الصومالية المعاصرة.
في عام 1978 تم بناء إستاد مقديشو الكبير، ليكون رمزا رياضيا بارزا كثاني أكبر إستاد رياضي في قارة إفريقيا، وبقي مفخرة لكل الصوماليين حتى اشتعلت الحروب والصراعات السياسية بالبلاد في بداية التسعينات.
كان إستاد مقديشو يعد أحد المعالم البارزة بالعاصمة الصومالية، كصرح رياضي ضخم يستوعب ما يقرب من 60 ألف متفرج، ويتضمن العديد من الملاعب الفرعية لرياضات ألعاب القوى، والسباحة، وكرة السلة ، والكرة الطائرة.
لم يكن ملعب مقديشو، كما يحب أن يسميه الصوماليون، مجرد مكان لكرة القدم وممارسة الرياضات الأخرى، إنما كان رمزا مهما ومكانا حيويا لإقامة التجمعات السياسية، والأحداث المهمة بما فيها الحفلات الموسيقية.
عندما اشتعلت الحروب في البلاد أصيبت الأنشطة الرياضية ومعها إستاد مقديشو بالشلل، وتحول المعلم الرياضي الشهير والأبرز في الصومال إلى ثكنة عسكرية ومكان لتجمع قواعد عسكرية لجهات مختلفة تبادلت السيطرة على العاصمة مقديشو، كما كان شاهدا على عمليات إعدام جرت على أرضه.
عبر سنوات طويلة مثقلة بالأحداث الساخنة والمأساوية، ظل إستاد مقديشيو خارج الخدمة وانتزعت منه رسالته السامية في تشجيع الرياضة وبث روح السلام والمحبة بين المتنافسن، بعد أن صار ساحة لتنفيذ أحكام الإعدام.
وعلى الرغم من رسوخ تلك المشاهد المأساوية وارتباطها بإستاد مقديشو في ذاكرة الشعب الصومالي، إلا أن خبر الإعلان عن تسلم الصرح الرياضي الوطني الكبير للسلطات المحلية، كان مصحوبا بحالة من السعادة والفرح لدى الصوماليين الذين يرون في هذه الخطوة بداية ورمزا لإعادة الإعمار المأمول.
سبع سنوات قضتها قوات حفظ السلام الأفريقية “أميصوم” بالصومال وهي تتخذ من الملعب الوطني قاعدة عسكرية، حتى تسلمته الحكومة الصومالية مؤخرا. ويبدو الحدث أكبر من مجرد استعادة ملعب رياضي، حيث يعكس صورة إيجابية لتطور الأوضاع الأمنية والسياسية في الصومال. كما أن تأكيد المسؤولين بالعمل على استئناف النشاط الرياضي داخل إستاد مقديشو خلال الفترة المقبلة يسهم في تبديد مشاعر القلق والخوف من خطورة الأوضاع بالبلاد التي يروج لها الكثيرون، كما يمثل صفعة على وجه كل من يشكك في إمكانية أن تعود الحياة طبيعية في الصومال من جديد.
إن الرياضة حياة والحياة أمل وعمل، ولا يمكن أن تنتعش الرياضة بدون الأمن والاستقرار، كما أن انتظام النشاط الرياضي يساعد على تكريس ملامح الحياة الطبيعية ويسهم في بث روح الوئام والسلام المرتبطة بالروح الرياضية.
الإرادة الصومالية والإصرار على تسلم الإستاد وبعث الحياة الرياضيه فيه من جديد، كان هو الدافع القوي الذي جعل قوات حفظ السلام تمتثل للرغبة الصومالية في إخلاء الإستاد الوطني، والتي تعود لست سنوات مضت. ففي عام 2012 تقدم عبد العزيز سعيد الأمين العام لاتحاد كرة القدم الصومالي بطلب رسمي للإتحاد الإفريقي يطلب فيه مغادرة الجنود للسماح باستئناف الأنشطة الرياضية، ثم عاود وزير الداخلية عبد الرازق محمد بتجديد مطالبة الجنود بالإخلاء. وفي نوفمبر من عام 2017 حدث إخلاء جزئي لإستاد مقديشيو قبل أن يتم الإخلاء الكامل للملعب الوطني مؤخرا ليعود إلى أحضان الشعب تمهيدا لإعادة التأهيل والتشغيل بعد غياب دام أكثر من ربع قرن.
حالة إستاد مقديشو خلال تلك الأعوام المنصرمة التي تعطل فيها نشاطه الرياضي والاجتماعي، تعكس أيضا الأوضاع السياسية السيئة التي مرت بها البلاد وعاني منها الشعب الصومالي عبر ما يزيد عن ربع قرن. لذلك ينبغي على الحكومة الصومالية أن تستثمر هذه اللحظة التاريخية في استعادة الملعب الوطني، لاستئناف الحياة الطبيعية خاصة مع وجود إرهاصات لبداية الأنشطة الرياضية من جديد بعد ما سببه إرهاب تنظيم “الشباب” في وقف النشاط الرياضي.
لقد شهدت الفترة الأخيرة مجموعة من الفعاليات الرياضية المتتالية التي تعد بشارة طيبة – على الرغم من قلتها- لتطور البلاد نحو أوضاع أفضل. حيث شهد عام 2015 بث أول مباراة كروية صومالية على الهواء مباشرة عندما احتضن ملعب بانادير في العاصمة مقديشيو مباراة نهائية بين فريقي الشرطة والجيش. وعلى الرغم من الكم الكبير للحراسات الأمنية في تلك المباراة لتأمينها، إلا أنها تعد مؤشرا مهما على طريق الإستقرار الأمني والسياسي.
وبدا التعطش الجماهيري الكبير لمثل هذه الفعاليات الرياضية في الحضور الكثيف لأول مباراة تم تنظيمها تحت الأضواء الكاشفة بالصومال منذ ثلاثين عاما، وذلك في نهائي كأس العاصمة عام 2017.
إن الاهتمام الشعبي بالرياضة وتشوق الصوماليين لعودة هذه الأجواء من جديد، من شأنه أن يسهم في التفاف صفوف الشعب حول الوطن والاندماج في قضاياه بما يساعد على الانضمام تحت لواء مصير واحد مشترك يجمع ولا يفرق. ولتكن البداية من الاحتفالية القادمة إعادة إفتتاح وتشغيل إستاد مقديشو وتفعيل الأنشطة الرياضية بحكم أنها تحظى بشعبية جارفة ومن خلالها يمكن للمسؤولين تكريسها في خدمة أهداف وطنية.
ويبقى ملعب أو إستاد مقديشو الرمز العظيم ذا المغزى العميق في العقلية الشعبية والوعي الجمعي الصومالي، لما شهده من أحداث جسام صار شاهدا عليها ، بل شاهدا على عصر طويل من الصراع، وينتظر الفرصة ليشهد على عصر جديد من الاستقرار والسلام.